مر محللو العلاقات الدولية بمرحلة كانوا يتناقشون فيها ما إذا كانت الصين سوف تصل إلى مصاف القوى العظمى في النظام الدولي، أم أنها ستتعثر في الطريق إلى القمة كما تعثرت قوى كثيرة غيرها عبر التاريخ؟ وإذا حدث وتعثرت، هل يكون هذا التعثر نهاية لحلم القوة العظمى أم تأجيل لتحقيقه؟ غير أن هذا الجدل أصبح الآن في ذمة التاريخ بعد أن استكملت الصين بالفعل مقومات القوة العظمى، وحل محله جدل آخر يدور حول احتمال أن تصبح الصين يوماً ما القوة العظمى الأولى في العالم. وأما عن استكمال مقومات القوة العظمى، فقد أصبح الاقتصاد الصيني ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، والأهم أنه يتفوق عليه في بعض الأبعاد كالتبادل التجاري بين البلدين الذي حققت الصين فيه خلال الأحد عشر شهراً الأولى من عام 2019 فائضاً لصالحها بلغ 272.5 مليار دولار، مما يفسر الحرب التجارية الضروس التي أعلنها الرئيس الأميركي ترامب على الصين حين فرض على السلع الصينية، في مارس 2018، رسوماً جمركية بلغ مقدارها 50 مليار دولار.
كما تنامت قوة الصين العسكرية حتى أصبحت تحتل المكانة الثالثة عالمياً بعد الولايات المتحدة وروسيا، فلو افترضنا استمرار التحالف الصيني الروسي ستصبح الأمور أكثر وضوحاً. وإلى ذلك فالصين صاحبة ثاني إنفاق عسكري في العالم (230 مليار دولار) بعد الولايات المتحدة (700 مليار)، وإن كان خبراءٌ يرون أن الصين تنفق مواردها لتعزيز قدرتها العسكرية بفعالية أكبر بما يقلص فارق الإنفاق، وهي تترجم تفوقها العسكري في بحر الصين الجنوبي.
ومن ناحية ثالثة، أصبح للصين مشروعها العالمي «مبادرة الحزام والطريق» الذي سوف يعني نجاحه تحول الصين إلى مركز ثقل رئيسي للتفاعلات الاقتصادية الدولية، خاصة وأنها قدمت وتقدم هذا المشروع باعتباره مختلفاً بشكل كلي عن مشاريع الهيمنة والاستغلال التي اعتادت القوى العظمى عليها.
غير أن الطريق إلى القمة ليس مفروشاً بالورود، وقد سبق لمحللين أن توقعوا وصول الصين إلى مصاف القوى العظمى إن لم تكن القوة العظمى الأولى في العالم قبل نهاية القرن العشرين، غير أن أحداث الثورة الثقافية في ستينيات ذلك القرن وجهت ضربة قوية لهذا الحلم، بعد أن تسبب الصراع على السلطة بين ماو وخصومه في سنوات من عدم الاستقرار السياسي الذي كانت تكلفته الاقتصادية باهظة، والأهم هو التدهور الذي أصاب قطاع العلم والتكنولوجيا في سياق تلك الأحداث حين وُجهت اتهامات للعلماء والمبتكرين. وعموماً فإن العوامل الداخلية تلعب دوراً رئيسياً في بناء مكانة أي دولة في المسرح العالمي، فمهما قيل عن استنزاف أميركي متعمد للاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن الماضي أدى في النهاية إلى تفككه، فإنه لم يكن ليلقى هذا المصير لو لم تكن بنيته السياسية هشة. وهو خطر مازال قائماً في الحالة الصينية، حيث انفتحت الصين الشيوعية على النهج الرأسمالي في التنمية الاقتصادية بينما احتفظت بالبنية السياسية التقليدية، وهو ما يراه البعض خطراً على مستقبل مكانة الصين كقوة عظمى. غير أن الأسابيع الأخيرة أتت بتحد مفاجئ من نوع مختلف تماماً، وهو فيروس «كورونا» الذي يقترب ضحاياه من الألف والمصابون به من 40 ألفا، وتُعَد مواجهة خطره بنجاح مؤشراً مهماً على قوة الدولة التي لا تقاس بمؤشرات عسكرية واقتصادية فحسب، وإنما تدخل فيها مؤشرات عديدة للقوة الناعمة، منها ما يتعلق بالوضع الصحي للسكان، والأهم من ذلك أن تكون لديها القدرة على إدارة أزمة بهذه الخطورة. وتبذل السلطات الصينية جهوداً مضنية لتحقيق السيطرة على كافة الأصعدة، وكان مشهد بناء ذلك المستشفى العملاق في ثمانية أيام لافتاً، ومن المؤكد أن العلماء الصينيين يبذلون جهوداً محمومة لتصنيع عقار للعلاج والوقاية من كورونا. غير أن الأمور لم تصل إلى بر الأمان حتى الآن.. فكيف تجتاز الصين هذا الاختبار العسير؟!