ما يزال الشارع العراقي، في عدد من مدنه، مستمراً على حراكه الغاضب، فهو يغلي ويرفع الصوت ثائراً ورافضاً الفوضى والإهمال والهوان والتخاذل من جانب حكوماته المتعاقبة على السلطة منذ عام 2003. وقد وتواترت الاحتجاجات الغاضبة وتنامت منذ عدة أشهر خلت، زادت خلالها الاحتجاجات بلا توقف ولا هوادة ولا تهاون ولا استسلام لليأس من تغيير الواقع، رغم تعرض المحتجين لشتى أساليب البطش والقمع والقتل بلا رحمة ولا شفقة، على أيدي حكومة غير مبالية بأحوال شعبها وإرادته، وقد انتهجت ذات المسار الذي انتهجته سابقتها، بما في ذلك تجاهل متطلبات الشعب ومطالبه المشروعة العادلة، حيث أبلت هذه الحكومات المتعاقبة بلاءً غير حسن في تبديد الأموال العراقية دون وازع ديني أو رادع وطني ولا حتى حس إنساني!
مَن كان يتوقع أن بعض العراقيين وعوائلهم المتعففة، سيضطرون ذات يوم للتفتيش في القمامة لسد رمق جوعهم من شدة ما أصابهم من ضرر، ويتسولون في الشوارع يستجدون رغيف الخبز وحبة الدواء وجرعة الماء.. رغم أن بلدهم يطفو على بحيرة من النفط، فضلاً عن مياه الرافدين وأسماكهما الكثيرة وأراضيهما الخصبة الصالحة للزراعة والاستثمار.
المراقبون أصحاب الضمائر الحية والإحساس بالآخر، استبشروا خيراً فرحين بهذه الانتفاضة الشعبية العارمة، التي اجتاحت بلاد الرشيد ودار السلام ومهد الحضارات، والتي أظهرت أن الشعب العراقي أصبح أكثر نضجاً ووعياً بأوضاعه بعد انتظار طويل ووعود كثيرة كاذبة وتعهدات والتزامات واهية. لقد استيقظ الشعب العراقي بعد ما عاناه من التهميش والتهجير والقتل والاعتقال والتنكيل.. وهذه الاحتجاجات قد تعيد للعراق والعراقيين كرامتهم ومجد تاريخهم الذي سُلب واختُطف من قبل الميليشيات الطائفية الدخيلة على البلد والتي أغرقته في وحل الكوارث والمحن والمآسي.
لكن الانتفاضة المليونية التي ثارت وتجمهرت في محافظة ذي قار (مركزها الناصرية)، لها تأثيرها الواضح وطعمها الخاص ومشهدها المتميز اللافت ضمن اللوحة العامة لاحتجاجات العراق الحالية، إذ تنم عن حس وطني عالي المستوى، من حيث توقيتها ومعناها وحجمها ومكانها، ولأنها صادقة وعفوية وبدون تدخل سياسي أو ديني أو طائفي يوجهها ويسيسها ويحرِّف مسارها.
وحين تثور الناصرية وتنتفض، فذلك يعني أن جنوب العراق كله يتحرك ويحتج ويثور ضد الاحتلال والتبعية والاضطهاد، مستعيداً انتماءه الوطني والقومي الحقيقي، فالناصرية أم الانتفاضات وأم الأبطال والشهداء والشعراء والرموز الوطنية التاريخية المشهودة، وهي التي ما فتئت تحلم بالثأر لسيل من دماء أبنائها. فهذه المدينة ذات التاريخ الضارب في عمق العراقة، سميت على معركة «ذي قار» الشهيرة بين العرب والفرس، وهي مدينة السعدون والمنتفق وناصرية العشائر التي ثارت ذات يوم على المحتلين بـ«الفالة» و«المكوار» (سلاحان قديمان)، وهي مدينة الأصلاء والنبلاء والغيارى أصحاب الدم الحار. وقد تأسست في عام 1870، ويبلغ عدد سكانها اليوم نحو 270 ألف نسمة. وما برحت الناصرية تهزم كل عدو ودخيل وغاز، وما تزال رائحة البارود تنفث من نسمات هوائها العليل، وما فتئ رجالها يتذكرون صرخات المقاتلين وصهيل الخيل وصليل الرماح والسيوف، وأبطال العراق يطاردون الغزاة دفاعاً عن الدين والعروبة والهوية والتاريخ.
فهل ترسم مليونية الناصرية خارطة طريق جديدة لمستقبل العراق؟!

*كاتب سعودي