نرجع إلى التاريخ البشري الغابر للعبرة من دون إطالة الوقوف عنده لأنه يسبب التخلف، لنصل إلى الحاضر العابر إلى المستقبل. فتحنا آذاننا على قرع طبول الإمبراطورية الرومانية والفارسية والسجال الحضاري والصراع والتحدي بينهما لم يتوقف لآلاف السنين، من الاحتلال والإذلال والاستحلال والاستعمار بالسحل مرة وبالاستعباد مرات.
لقد أوقف كل ذلك بعثة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، بإسلام الاعتدال والوسطية، لقد وصل امتداد النفوذ الفارسي إلى اليمن، وانتهى ببعثة النبي محمد، وقد دخل كل الفرس الموجودين في اليمن الإسلام طوعا لا كرها ومن ضمنهم بعض أولاد كسرى.
أما الحضارة الرومانية التي كانت ممثلة في حكم «النجاشي» للحبشة، فإنها كانت حاضنة الإسلام والمسلمين بعد أن هربوا من ظلم وطغيان ذوي القربى. لقد انتصرت الرومانية النصرانية على الفارسية المجوسية ونزل في ذلك قرآنا يتلى إلى قيام الساعة في سورة «الروم». وفي غزوة الخندق الذي أخذ الرسول بمشورة سلمان الفارسي في حفره للخندق تنبأ المصطفى بزوال الإمبراطورية الفارسية، وقد تحققت هذه المعجزة على يد الفاروق عمر بن الخطاب.
خلال ربع قرن من خلافة الإسلام دانت الأرض له، وذلّلت للإنسانية جمعاء، للرحمة المهداة للعالمين، أينما وصل إليه هذا النور العظيم الذي وصفه الله في محكم كتابه «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون».
هذا الربع قرن من حياة الإسلام وحُكمِه الأرض ومن عليها، هو المقياس الثابت لحكم العالم فيما بعده من القرون التي تأرجحت فيها الموازين لتقادم الدهر ومدى ابتعاد الناس وقربهم من تلك الثوابت الإنسانية.
تحولت الخلافة الراشدة بعد القرن الأول الهجري إلى ملك عضود منذ عهد معاوية، ولم تتحول إلى إمبراطورية
«إسلامية» رغم الانتصارات المتوالية بين فترة وأخرى.
وعندما انتقل الإسلام من الجزيرة إلى الغرب الأوروبي بالأندلس، لم يكن تحولاً نحو الإمبراطورية بل هروباً باتجاه «ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا إليها..».
فبنى الإسلام حضارة راقية تحدثت بها الركبان الأوروبية أكثر من العربية، سواء في الجوانب العلمية منها أو الترفيهية، وعندما طُمس بريق تلك الحضارة لأسباب موضوعية، طُردت الإنسانية خارج المعادلة التي تنشأ عليها الحضارات الكونية، فانقطع خيط عِقد الفردوس الأندلسي وتناثر بعد عمار قرون قيل لسلاطينها: أبكوا كما تبكي النساء على ملك لم تستطعوا الحفاظ عليه.
إلى هذه اللحظة الزمنية، لم نلمس النفس الإمبراطوري لامتداد حضارة الإسلام في الأصقاع التي احتضنتها.
ولم نسمع هذا الصوت النشاز إلا بحلول عهد الدولة العثمانية التي انتشر صيتها باسم الإمبراطورية العثمانية التي تمددت جغرافياً حتى وصولها إلى فراش «الرجل المريض»، ومن ثم تولي أتاتورك زمام الأمور لبناء تركيا المعاصرة.
بالمقابل كان الاتحاد السوفييتي بمثابة الإمبراطورية الروسية في العصر الحديث، والتي تسبب في انهيارها «جورباتشوف» في «البروسترويكا» بعد سبعة عقود من حكم الجغرافيا للشعوب.
وجاءت أميركا التي تعلمت من خطورة انتهاج طريق الإمبراطوريات في التحكم بمصائر الشعوب، لتؤسس لنفسها الولايات المتحدة، وجاءت المكسيك بعدها على ذات النهج.
وفي أوروبا المعاصرة كان الاتحاد السويسري نموذجا مثالياً، يضم إليها الاتحاد الأوروبي الذي تم الإعداد له قبل أكثر من نصف قرن. ولا يمكن إغفال الإمبراطورية البريطانية في هذا السياق، وقد تحكمت في العالم قرابة ألف عام، فانكمشت في جزيرة نائية، وقد خرجت أخيراً حتى من حاضنتها الأوروبية.
ولحاقاً بقافلة الحضارات، تأسس في العالم العربي والإسلامي مثال حي لاتحاد سبع إمارات في دولة اتحادية يتحدث عنها القاصي والداني، وهي في طريقها لقطف ثمار نصف قرن من العمران.