ربما يكون أسلوب الحياة الذي ينشئه ويسلكه الجيل الجديد أهم أدواتنا الفاعلة لتخمين المشهد المستقبلي، باعتباره أفكاراً وفلسفات واضحة وملموسة، أو تتبلور على نحو أكثر وضوحاً من المكونات الرئيسة الأخرى للأمم، مثل الموارد والأسواق والأعمال، وفي مقدور كل واحد منا أن يتأمل في أسلوب حياة الأجيال، ممن ولدوا في بداية الألفية الثالثة أو قبلها بقليل، وقد بدأ هذا الجيل يتخرج من الجامعات ويدخل سوق العمل، وبطبيعة الحال، فإنه سيكون بعد ذلك بسنوات قليلة (بحدود 2030) شريكاً في تخطيط وتصميم السياسات والمؤسسات والاتجاهات العامة، ثم سيكون الجيل المؤثر والمهيمن بشكل رئيسي على السياسات والأسواق والثقافة (بحدود 2040).
هكذا يمكن أن نسأل ببساطة ما هي اتجاهات الجيل الجديد في الطعام واللباس والسكن والسلوك الاجتماعي والاستهلاك والعلاقات الشخصية والأسرة والمجتمع والعادات والتقاليد والقيم ومهارات الحياة والعمل. ثم نقدر ونخمن العالم القادم أو المتشكل!
يغلب على الجيل عدم الالتزام بقواعد وتقاليد محددة في الطعام واللباس والنوم والاستيقاظ والعلاقات الاجتماعية والعمل، ليس بمعنى الرفض للثقافة الاجتماعية السائدة، لكنه أيضاً يراجع ويتأمل، كما أنه يطلع على أساليب حياة وثقافات أخرى، بل ويشارك فيها أيضاً. وهنا يمكن الحديث عن اتجاهين في التأسيس للثقافة وأسلوب الحياة، أولهما عدم وجود قواعد محددة ومتوقعة للسلوك، وهي على الأرجح حالة مؤقتة، فالناس يفضلون ألا يفكروا في كل مرة ومناسبة ماذا سيفعلون، والاتجاه الثاني هو العولمة الثقافية، أو اقتراب الأمم والحضارات من بعضها بعضاً والمعرفة الواسعة التي يمتلكها الجيل اليوم بالثقافة وأسلوب الحياة في العالم، لكنها ليست عولمة بمعنى «التشابه» وإنما التنوع والاختلاف والتقبل، بمعنى التفاعل والتعايش بين الثقافات وتجاورها وتعددها في الفضاء الواحد. فقد تراجعت العولمة بمعنى الهيمنة أو التنميط للأمم والمجتمعات، وتحلّ مكانها عولمة اجتماعية تقوم على عدم اليقين، بمعنى أن كل فكرة يمكن أن تكون صواباً أو خطأ، ومن ثم يجب أن تأخذ حقها في التجربة والبقاء.
تعكس أنظمة الطعام واللباس والعمارة والآداب والفنون بوضوح اتجاهات اجتماعية وفلسفية يؤمن ويلتزم بها أصحابها، وفي ظل صعود الفردية وانتفاء القواعد المنظمة والمتوقعة، فإنها أساليب تعكس الفرد وليس المجتمع، هكذا فإن الأسواق والأنظمة الاقتصادية والعملية المتصلة بالطعام واللباس والسكن سوف تتغير وتطور نفسها باتجاه تلبية احتياجات وطلبات متعددة ومتنوعة بلا حدود، ونلاحظ اليوم كيف تتلاشى عادات الأسر في المائدة والطهو، إذ تختلف وتتعدد الرغبات والمواعيد، وتنمو خدمات تقديم الوجبات الجاهزة إلى أي مكان وفي أي وقت، ويزيد الإقبال أيضاً على تحضير وجبات وأطعمة سريعة لا تعكس هوية أو التزاماً اجتماعيا، فالمائدة بتقاليدها في ما يقدم ومواعيدها تتراجع في حياة الأسر، وإذا أعيدت فسوف تعكس على الأرجح تعدد الاتجاهات والأفراد.
وقد بدأ اللباس منذ مطلع القرن العشرين يعكس الفرد، ولم يعد يعبر عن طبقة أو مجتمع أو مكان أو وظيفة أو اعتقاد ديني إلا في حالات ومجالات قليلة، ويتوقع بالطبع أن تزيد الفردية في اللباس واختياره، ومن ثم تتغير الأسواق والمهن المتصلة باللباس لملاءمة كل فرد، فتعود أو تتنامى خدمات أعمال التوصية والتصميم الخاص للملابس لتعكس العلامة أو الإشارة أو الهوية الخاصة بالفرد. وتنشأ اليوم أسواق وأعمال متسعة لتصمم علامات أو رسومات أو تصاميم خاصة أو متاحة فقط عند طلبها والتوصية عليها.
ماذا سيكون مصير المؤسسات التي تراجع الطلب عليها لدى الجيل القادم؟ يمكن بالإجابة عن هذا السؤال أن نقدر كيف ستدار الأعمال والمؤسسات الإعلامية والتعليمية والإرشادية، ففي إقبال الجيل على شبكات التواصل وعزوفه عن المؤسسات التقليدية سوف تتحول شبكات التواصل إلى منصات إعلامية وإرشادية وتعليمية، وتنحسر أو تتغير المؤسسات القائمة اليوم!
ومن خلال الاهتمام بالهواتف المحمولة تتطور برمجيات وقدرات وتطبيقات ليكون الإنسان قادراً على تلبية كل ما يبحث عنه ويريده، لقد تحول الهاتف المحمول إلى عالم للعمل والقراءة والاطلاع والتواصل والتسلية، ثم تنشئ فرص الأعمال والتواصل من خلال الهاتف سلسلة من الأعمال وأنظمة العمل، وقد يكون العمل من بعد هو الأصل أو الغالب على الأعمال والوظائف، وتنشأ متوالية أخرى معقدة في البناء وتخطيط الأحياء والمدن والبلدات والبيوت، فتقل الحاجة إلى المكاتب والمباني، وتزيد الحاجة إلى إعادة تصميم البيوت لتلائم العمل والتعليم والمكوث الطويل فيها، وتقل الحاجة للإقامة في المدن أو قريباً من العمل، ويكون في مقدور الإنسان أن يقيم حيث يشاء طالما أنه قادر على العمل والتواصل من أي مكان. وبعبارة أخرى فإن الشبكة تتحول لتكون مدينة الإنسان،.. ولا تتوقف بالطبع سلسلة التحولات والتشكلات.
*كاتب وباحث أردني