بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف على استفتاء يونيو 2016، خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليتحقق حلم أنصار «الاستقلال» بعد سنوات طويلة. ومع أن سنة صعبة انتقالية من المؤكد أنها تنتظر الحكومة البريطانية لتحديد أبعاد العلاقة الجديدة مع الاتحاد الأوروبي، فإن السؤال الأهم يدور حول ما إذا كان «البريكسيت» سوف يمثل الفصل الأخير في العلاقة المعقدة بين بريطانيا والاتحاد، والتي امتدت فصولها لأكثر من ستة عقود. وأغامر بالقول إن هذا ليس مؤكداً، بمعنى أن علاقة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي مازالت مفتوحة في المديين المتوسط والطويل على كل الاحتمالات. وأساس هذا الافتراض أن الخبرة الماضية تشير إلى أن بريطانيا كانت تنفر من الرابطة الأوروبية لسبب أو لآخر، وقد يكون هذا السبب هو الماضي الإمبراطوري العتيد الذي جعلها ذات يوم على قمة النظام العالمي، وهو أمر يراه البعض كامناً في خلفية التفكير الاستراتيجي البريطاني الذي يستنكف عن أن تصبح الإمبراطورية العظمى ترساً في عملية تكاملية ضمن تروس أخرى حتى ولو كانت الأهم بينها. وهكذا فإنه بينما استوعبت فرنسا دروس العدوان الثلاثي على مصر، والذي كشف الوزن الحقيقي لها عالمياً ولبريطانيا فقبلت بل وتحمست لأولى خطوات التكامل الأوربي (اتفاقية روما 1957)، فإن بريطانيا رفضت الانضمام إليها. ويضيف بعض المحللين إلى العقدة الإمبراطورية، وهْم الشراكة البريطانية الأميركية في قيادة النظام العالمي.
وفي أول مؤشر على ارتباك التفكير الاستراتيجي البريطاني بشأن العلاقة مع أوروبا، تراجعت بريطانيا عن موقفها خلال أربع سنوات فقط وتقدم رئيس وزرائها المحافظ هارولد ماكميلان، في 1961، بطلب عضوية الجماعة الأوروبية، غير أن الظروف كانت قد تغيرت جذرياً بوصول ديجول إلى سدة الرئاسة الفرنسية في 1959 وتوجهه الاستقلالي عن السياسة الأميركية، لذلك اعترض على قبول بريطانيا في الجماعة باعتبارها «حصان طروادة» للنفوذ الأميركي من وجهة نظره، وعاد فكرر اعتراضه في 1967، وهكذا لم تنضم بريطانيا للجماعة إلا في 1972 بعد أن انسحب ديجول من المسرح السياسي.
على أن علاقة بريطانيا بالجماعة التي تطوّرت لاحقاً إلى «الاتحاد الأوروبي»، كانت دائماً شديدة التعقيد وحافلة بالشد والجذب، فبينما كانت أوروبا تسير بمزيد من الحماس نحو إكمال عملية تكاملها الاقتصادي، بل والأمل في تكامل سياسي وعسكري، فإن بريطانيا بدت دائماً الكابح الرئيسي لهذه العملية، وظهر من البداية في الساحة البريطانية الاتجاه الرافض لمزيد من التكامل بل والمتبرم بما تحقق منه بدليل اضطرار رئيسة الوزراء المحافظة مارجريت تاتشر في 1975 إلى إجراء استفتاء حول البقاء ونجحت في إقناع 67?‏ من الشعب بذلك. غير أن العلاقة مع الاتحاد الأوروبي لم تسر بسلاسة بدليل اعتراض بريطانيا على خطوات مهمة للتكامل الأوروبي، كما في التأشيرة الأوروبية الموحدة والعملة الأوروبية الموحدة وفكرة إيجاد قوة عسكرية أوروبية والتحول باتجاه اتحاد فيدرالي.
ولأن بريطانيا عضو رئيسي في الاتحاد، فقد سُمح لها بالاستمرار في العضوية رغم تلك المواقف، ومع ذلك فقد تنامى مرة أخرى الاتجاه الاستقلالي عن أوروبا في الساحة السياسية البريطانية، وظهر «حزب الاستقلال البريطاني» في 1993 ليحقق نجاحات لافتة في الانتخابات المحلية وانتخابات البرلمان الأوربي 2014 التي نال فيها 26?‏ من الأصوات و24 مقعداً، والدليل على تنامي الاتجاه الاستقلالي في السياسة البريطانية أن رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كاميرون اضطُر في الحملة الانتخابية 2015 إلى التعهد بإجراء استفتاء على البقاء في عضوية الاتحاد حال فوزه في الانتخابات، وهو ما حدث بالفعل في يونيو 2016 حيث وافق البريطانيون على الخروج بأغلبية ضئيلة 51.59?‏، وكانت هذه النتيجة بداية لسنوات صعبة قيل إن السياسة البريطانية لم تمر بمثلها منذ أزمة السويس 1956، ورغم أن هذه السنوات قد انتهت بالخروج، فإن الباب مازال مفتوحاً لمزيد من التطورات التي قد تبقي قضية العلاقة مع أوروبا مفتوحةً أمام تطورات جديدة، كأن يتأثر الاقتصاد البريطاني سلباً بالخروج كما توقعت جهات اقتصادية رصينة.
ولا ننسى أن معارضي الخروج قد بلغوا أقل قليلاً من نصف الناخبين، بل إن المعارضة تفاقمت في اسكتلندا وأيرلندا حيث تتصاعد النزعة الاستقلالية فيهما، لكن عن بريطانيا وليس أوروبا، وهنا تنتقل القضية من مجرد علاقة بريطانيا بأوروبا إلى مصير المملكة المتحدة ذاته.