تحت تأثير الفلسفة الإسلامية، ظهر التيار العقلاني الحديث ابتداءً من ديكارت («أنا أفكر فأنا إذن موجود»)، والدليل الأنطولوجي على وجود الله. واستمر عند الديكارتيين، خاصة «اسبينوزا» الذي رفض إخراج الاستثناءات الديكارتية، العادات والتقاليد ونظم الحكم، من حكم العقل في «رسالة في اللاهوت والسياسة»، وطبّق النقد العقلي على النصوص المقدسة، وانتهى إلى نتائج وخلاصات رفضتها الكنيسة. وأثبت «ليبنتز» التوحيد بالعقل الطبيعي في «المونادولوجيا»، والعدل الإلهي في «الثيوديسيا». ورأى «مالبرانش»، في «البحث عن الحقيقة»، أن قدرة الله تتجلى في كل شيء. ووحد «لسنج» بين العقل والإيمان، بين الدين والطبيعة.. وجعل دين العقل آخر مرحلة في تطور الوحي من الحس (اليهودية) إلى الوجدان (المسيحية) إلى العقل وفلسفة التنوير (الإسلام). وكان «برنشفيج» آخر العقلانيين المعاصرين. فالعقل هو روح التاريخ، ونموذجه الرياضيات، ومعيار الحقيقة فيه الاتساق وقانون الهوية، وهي الصيغة الرياضية للتوحيد. واستمر التيار العقلاني عند «كانط» والفلاسفة من بعده، فالدليل على وجود الله هو مفهوم الواجب والأمر المطلق في «العقل العملي»، وهو الدليل الغائي في «نقد ملكة الحكم». والدين في حدود العقل يكشف عن حضور مبدئي للخير والشر في الإنسان، ثم الصراع بين النفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء، ثم انتصار الخير على الشر، دون ما حاجة لواسطة بين الإنسان والرب.
واستمر «فشته» في نفس التيار الكانطي، فوحّد «شلنج» بين العقل والروح، بين الروح والطبيعة. وأخيراً جاء «هيجل» ووحّد بين العقل والإيمان، بين الله والتاريخ، بين الفن والدين والفلسفة.. تحت تأثير المتصوفة المسلمين.
وأخيراً، ورغم أهمية ثنائية العقل والإيمان، فإنها ثنائية معرفية خالصة، لا تخرج عن دائرة الذات العارفة إلى الفضاء الفسيح والعالم الرحب. وهي الآفاق: ‏«سنريهم ?آياتنا ?في ?الآفاق ?وفي ?أنفسهم ?حتى ?يتبين ?لهم ?أنه ?الحق»، ?وهي ?الأرض أيضاً: «وفي ?الأرض ?آيات ?للموقنين، ?وفي ?أنفسكم ?أفلا ?تبصرون»، ?وهي ?ما ?يسمى ?بلغة ?الفلاسفة ?«الطبيعة» ?التي ?تجمع ?بين ?المعرفة ?والوجود ?الواقع. ?والواقع ?لفظ ?قرآني: «سأل ?سائل ?بعذاب ?واقع»، «إن ?عذاب ?ربك ?لواقع»، ?«إن ?الدين ?لواقع»، ?«إن ?ما ?توعدون ?لواقع». ?والوحي ?له ?معياران، ?العقل ?والواقع: ?العقل ?للبرهان، ?والواقع ?للتصديق.. ?الأول ?للصدق ?المنطقي، ?والثاني ?للتصديق ?العلمي. ?وهذا ?ما ?طرحه ?محمد ?عبده ?في «?رسالة ?التوحيد» ?حين أوضح بأن ?هذا ?الوحي ?واقع، ?وأنه ?ليس ?تأملا ?نظرياً ?أو ?افتراضياً، ?بل ?هو ?نظام ?ممكن ?للعالم. ?صدّق ?الوحي ?إذن ?بالبرهان ?العقلي ?وبالدليل ?التجريبي. ?الوحي ?يرتكز ?في ?الذهن ?وتصدّقه ?التجربة. ?وهو ?أيضاً ?معنى ?الحديث الشريف: «?الإيمان ?ما ?وقر ?في ?القلب ?وصدّقه ?العمل»?، ?وهو ?الأساس ?الذي ?قامت ?عليه ?علوم ?الطب ?في «?الحاوي» ?للرازي ?و«?القانون» ?لابن ?سينا ?و«?الكليات» ?لابن ?رشد ?و«?الشامل» ?لابن ?النفيس.
والسؤال لنا نحن المعاصرين هو: كيف يمكن إعادة النظر في المعنى الاشتقاقي للفظ العقل؟ وهل هو من «عقل البعير»، أي ربطه؟ العقل ليس عقالا بل تحريراً، وليس ربطاً بل تحليلا، لذلك يُعاني الفكر العربي اليوم من قيود الخوف.
ولما كان العقل والوحي والواقع، لكل لفظ منها ثلاثة معان: المعنى الاشتقاقي الأصلي، والمعنى الاصطلاحي الجديد، والمعنى التداولي كما يبدو في الأمثال العامية.. فإن المعنى الاصطلاحي يكون له الأولوية على المعنى الاشتقاقي. وتكون للمعنى العرفي التداولي أيضاً الأولوية على المعنى الاشتقاقي، وهذا ما يعنيه المثل الشعبي «عقلك في راسك يعرف خلاصك»، و«العقل زينة في كل رزينة».
ولعل ذلك يتطلب إعادة النظر في موضوع العقل والإيمان برؤية جديدة «في عالم متضامن». وهذا التضامن لا يأتي إلا في واقع عريض يُحتكم إليه، واقع يضم البشرية كلها وليس واقع القوي دون الضعيف أو الغني دون الفقير أو القاهر دون المقهور أو الظالم دون المظلوم أو الغاصب دون المغصوب.. هو الواقع المأزوم الذي تعيشه الشعوب اليوم ويطلب الخلاص.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة