يجهد الاحتلال الإسرائيلي في محاولاته ابتلاع فلسطين ككل، وآخر ذلك سعيه إلى ضم غور الأردن والمناطق المصنفة (ج)، مع تكثيف أنشطته الاستيطانية، وذلك في ظل وجود إدارة أميركية تواجه مساعي للإطاحة بها من الكونجرس، وتستعد لجولة انتخابات رئاسية جديدة تتمنى أن تكون لصالحها.. وفي ظل وجود رئيس وزراء إسرائيلي تحول إلى «ملك» في إسرائيل، لكنه بات عنواناً للمناكفات، سواء داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، أو في فلسطين، وهو أيضاً يجهد لصرف النظر عن قضية الحصانة البرلمانية الخاصة، على أمل حمايته من قضايا الفساد المتورِّط فيها.
ومع التفاصيل الجديدة حول «صفقة القرن»، ومع استمرار الوضع الحساس الذي يعيشه كل من الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) ورئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامن نتنياهو)، فإن محاولتهما الجديدة من خلال إعلان تفاصيل «الصفقة»، ربما تحمل في طياتها بدايات تغيير في الواقع الفلسطيني. ذلك أن ما نشر من تفاصيل حول «الصفقة»، كما بدا للفلسطينيين على الأقل، أوضح بأنها خطة تعكس التقارب بين ترامب واليمين الإسرائيلي ممثلاً في نتنياهو.
وقد أصبحت السلطة الفلسطينية، برفضها «الصفقة»، أمام اختبار صعب لابد أن تُتبعه بخطوات شعبية، وصولاً إلى تحريك الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بدءاً من الضفة الغربية والقدس، وصولاً إلى قطاع غزة. خاصة أنه مع التجاهل التام لمطالب الفلسطينيين، ما زالت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تحذِّر من تبعات «الصفقة»، خصوصاً في ظل الرسائل الاستفزازية الإسرائيلية التي تخص مستقبل الضفة، سواء عبر ضم غور الأردن ومناطق (ج)، أو من خلال الاستمرار في فرض التجمعات الاستيطانية الكبرى.. وهي رسائل ستزيد التوتر الأمني في الضفة، وستستدرج ردود فعل فلسطينية غاضبة.
والقول بأن الضفة الغربية تائهة هائمة لا حراك فيها، ينفيه إعلان جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي «الشاباك»، على لسان رئيسه «نداف أرغمان» الذي حذّر من «استمرار تسخين الجبهة الميدانية في الضفة الغربية»، وأكد أنه خلال عام 2019، «أحبط 560 عملية كبيرة، بما فيها 10 عمليات استشهادية، و4 محاولات اختطاف لجنود ومستوطنين، وأكثر من 300 عملية إطلاق نار، وأن الجيش الإسرائيلي أحبط بالمقابل قرابة 12 بنية تحتية لخلايا مسلحة فلسطينية خططت لتنفيذ عمليات دامية، لاسيما من خلال وضع عبوات ناسفة».
وفي السياق ذاته، أوضح تقرير أعده «مركز معلومات الاستخبارات والإرهاب» التابع للحكومة الإسرائيلية، أن «58% من العمليات في عام 2019 كانت عمليات طعن، حيث جرى تنفيذ 19 عملية طعن، أما بخصوص العمليات القاتلة التي تسببت بمقتل وإصابة إسرائيليين، فقد قُتل 5 إسرائيليين (4 مستوطنين وجندي) وأصيب 22 آخرون، حيث توزعت العمليات جغرافياً على عدة مناطق، أولها منطقة القدس وضواحيها حيث شهدت 11 عملية، تليها منطقة رام الله والتي نُفذت فيها 6 عمليات». ومن أكثر ما حذّر منه التقرير أن غالبية العمليات «نُفذت على أيدي شبان في العشرينيات من العمر، غالبيتهم دون سوابق ودون انتماء تنظيمي».
هذه المعطيات الإسرائيلية، تؤكد أن التوتر في الضفة الغربية آخذ في الزيادة مع مرور الوقت، كما يوضح تقرير «الشاباك» الذي يذكر أن «بعض القرارات الأخيرة للمستوى السياسي الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، تصبّ المزيد من الزيت على نار التوتر معهم». وبحسب تقرير فلسطيني، فقد «بلغت مجمل أعمال المقاومة الشعبية بالضفة والقدس 5402 عمل، تصدرت رام الله بـ1183 عملاً، تلتها القدس بـ1053، في حين جاءت الخليل ثالثة بـ823 عملاً مقاوِماً». مع التأكيد على أن هذه المقاومة الشعبية قد تتحول في أي لحظة إلى مسلحة، إذ شهد عام 2019، وفق التقرير ذاته، «تنفيذ عدد من العمليات النوعية التي استهدفت الاحتلال وجيشه ومخابراته، استهلتها عملية مفرق سلفيت» على يد شاب استطاع أن يطعن جندياً ويستولي على سلاحه ويقتله به، ثم يطلق النار على مستوطن ويرديه قتيلاً، ويجرح آخرين ويختفي لأكثر من 70 ساعة، تاركاً الاحتلال على أقصى درجات الاستنفار بحثاً عنه.
وعليه، فإن الأولوية اليوم هي لترتيب البيت الفلسطيني بما يعزز قدرة الشعب على تجاوز المخاطر المتراكمة. صحيح أن واقع الضفة الغربية، بما فيها القدس، صعب للغاية مع استمرار السياسات الإسرائيلية القائمة على عزل المدن عن بعضها البعض خوفاً من نجاح أي بوادر لانتفاضة جديدة، وصحيح أن البيئة السياسية الفلسطينية الحالية، وفي ظل الانقسام القائم، هي بيئة غير داعمة ولا بواكي لها.. إلا أن المتفائل يرى أن الأيام حبلى بتطورات نوعية بجهد ذاتي شبابي وجماهيري.
ولابد من الإشارة هنا إلى نجاحات حققها الشعب الفلسطيني؛ فالقدس المحتلة باتت ساحة مواجهة يومية تقريباً، حيث تقف الجموع الفلسطينية بتحدٍ وعزم في وجه هجمة الاحتلال الشرسة على المدينة، وتشتبك مع جنوده ومستوطنيه بشكل دائم، خاصة في العيساوية وسلوان ومخيم شعفاط، وتواصل الرباط في المسجد الأقصى والتصدي لمحاولات تدنيسه، وقد نجحت في كسر القيود الإسرائيلية التي كبلت «باب الرحمة» في المسجد الأقصى منذ عام 2002.
وتأسيساً على هذا كله، فإن الشعب الفلسطيني مطالب بتوحيد موقفه وبالانتقال من مرحلة التصريحات الرافضة إلى مرحلة الخطوات الفعلية لمواجهتها، والتي لا يمكن أن يكتب لها النجاح ما لم تقم بتحرك سريع لإنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي أولاً، والاتجاه نحو وضع خطة فلسطينية تبدأ بالتحرك على درب الكفاح السياسي والدبلوماسي والإعلامي، عربياً وإسلامياً وعالمياً، مع الإعداد لمرحلة فلسطيني جديدة فاصلة وحاسمة.