يخبرك «أنستغرام» أن سارا وآدم ومؤسسة «ناسا» و«ناشيونال جيوغرافيك» ووزارة الخارجية البريطانية قد أدرجوا في صفحاتهم صوراً جديدة. هكذا فإن الطفلة سارا والعامل آدم يملكان الفرصة نفسها، على قدم المساواة، مع المؤسسات العملاقة وحكومات الدول الكبرى. الفردانية تبدو اليوم من فضائل عصر الشبكية، بعدما كانت في عصر الصناعة ضريبة تتحملها المجتمعات باعتبارها أثراً جانبياً للحداثة، فالحوسبة والشبكات تعزز الفردانية، وتؤسس لاتجاهات وهياكل اجتماعية وثقافية جديدة.
لقد أظهرت التطورات الاقتصادية والاجتماعية في السنوات الماضية، الثقة الكبرى التي ترسخت بالشبكة باعتبارها المجال العام الجديد للأسواق والأعمال والثقافة. ويمكن، على سبيل المثال، أن نلاحظ كيف تغيرت علاقتنا بالصحافة ووسائل الإعلام، وكيف تحولنا من الورق والمحطات الإذاعية والتلفزيونية التقليدية إلى الموبايلات والحواسيب، وأما الجيل الجديد فهو لم يلاحظ ابتداء هذا التحول، لأنه نشأ مفترضاً أنه لا توجد صحافة ورقية وكتب مطبوعة، وأن وسائل الإعلام بمختلف أنواعها تقدم خدماتها عبر الشبكة، وكأن ما ليس موجوداً في الشبكة أو الموبايل ليس موجوداً في الواقع! لكننا في متابعتنا للإعلام والأخبار، لم نعد نتابعها على نحو ما كنا نفعله ونحن نقرأ الصحف أو نستمع إلى الإذاعات أو نراقب محطات التلفزيون، فنحن نعدّ مفضلاتنا وطريقتنا الخاصة في تصنيف المحتوى المتاح والمتدفق بلا حدود، ويمكن لكل واحد منا أن يتذكر ويلاحظ كيف تغير في المتابعة والتلقي والتفاعل مع المصادر الإعلامية، فأن تكون مجلتك أو صحيفتك المفضلة متاحة على الشبكة، لا يعني أنك تواصل قراءتها ومتابعتها كما كنت تفعل من قبل.
لقد أصبحت تعليقات الناس ومدوناتهم الخاصة جزءاً أساسياً في تكوين وتشكيل الفضاء العام، وأما المقالات الصحفية الرصينة والتعليقات المحترفة، فهي ليست متاحة تلقائياً، لكن خوارزميات الشبكة تخمن ما تحتاجه أو ما ترغب فيه وتقدم لك المحتوى الذي تتوقعه، وتبحث لك في المواقع المختلفة عما تتوقع أنك تريده وتقترحه لك، والأمر بالطبع ليس بريئاً ولا عفوياً، فعندما تقرأ مقالاً تتدفق عليك اقتراحات بالمقالات والكتّاب، وعندما تزور فندقاً أو محلاً تجارياً تتدفق عليك اقتراحات وعروض للتسوق، وتسارع للتواصل معك شركات تنتج ما تتابعه أو تقرأه أو تعمل في مجاله، وإذا تصفحت في جوجل في موضوع ما، فإن الشركات والمؤسسات ذات العلاقة بما تتصفحه تدرجك فوراً في قائمة مستهدفيها.
وفي ذلك تتشكل اهتمامات وخدمات إعلامية وثقافية، كما تنحسر أخرى، تبعاً لاتجاهات المتصفح، وليس كما تخطط وتفكر وسائل الإعلام، فالفرد يفرض اليوم على وسائل الإعلام والشركات والمؤسسات ما تنتجه وتقدمه، ولم يعد خيار (تقريباً) أن يقدم المحتوى إلا حسب اقتراحات ومشاركات يتساوى فيها على نحو مدهش جميع المتواصلين مع الشبكة، الأفراد والحكومات والمؤسسات والشركات، بغض النظر عن موقعها وحجمها الاقتصادي أو السياسي.
وكما يساهم الفرد في صياغة وتوجيه المنصات المختلفة، فإنه أيضاً يشارك على نحو أساسي وفاعل في وجهة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالعالم اليوم أو في غدٍ القريب يصوغه «المؤثرون»، وهذا «المؤثر»، قد يكون طفلاً يدرج أعماله في «يوتيوب» أو قارئ مهتم باقتصاد المعرفة؛ يبحث عن الوجهات الجديدة للثورة الصناعية الرابعة من الشبكة السحابية أو الطابعات ثلاثية الأبعاد، أو طالب علم مجتهد يبحث في الصحة والغذاء أو في سياسات وأخبار العالم، أو مدون ناشط يحاول التأثير في الاستهلاك أو البيئة أو الخدمات الأساسية في محيطه الذي يعيش فيه، أو شاعر ينتج «الخيال» والصور الفنية الجميلة، أو مثقف يحاول أن يجعل معرفته رسالة للناس، أو معلم يحاول أن يوفر أفضل خدمة تعليمية لتلاميذه، أو مشجع للرياضة يحاول أن يصل ناديه إلى أفضل النتائج،.. هؤلاء يشاركون، على قدر كبير من المساواة، مع وزارات الثقافة والتعليم والبنوك وشركات الاتصالات والنوادي والصحف ومحطات التلفزيون وشركات الإنتاج الدرامي والسينمائي وصانعي القمصان والأحذية ومصممي السيارات والأجهزة، إنهم معا يفكرون في تواصل وتوازن عملي لأجل عالمهم الذي يسعون لتحقيقه، وينشئون تنظيماً اجتماعياً وأخلاقياً، ويرسخون القيم والأفكار المنظمة للأعمال والأسواق والعلاقات الاجتماعية.
وبالطبع فإنه عالم مليء بالمخاطر والاحتمالات، وهو أيضاً قابل للتنظيم والترشيد، لكن ذلك لم يعد يجري بالوسائل المؤسسية المركزية في التنظيم والإرشاد والإنتاج، إن المليارات من المتواصلين مع الشبكة في كل مكان؛ من الأطفال والشباب والكهول والرجال والنساء، كما الشركات والحكومات والجيوش والأجهزة الأمنية والمؤسسات التعليمية والإرشادية والمنظمات الاجتماعية، يفكرون معاً وينشئون عالماً جديداً وقيماً جديدة، ويغامرون معاً بكل ما تعني المغامرة من إثارة وفوضى وخوف وطموح وسمو وأهواء ومصالح وأفكار ولهفة، ولا يملك أحد اليقين أو الصواب.. ليس لدينا في هذه المغامرة سوى الخيال والنية الحسنة.