وقعت الصين والولايات المتحدة مؤخراً على اتفاق تجاري يُنهي نزاعاً كبيراً استمر سنتين، ويتضمّن شراء بكين بضائع أميركية إضافية بقيمة 200 مليار دولار خلال عامين، مقابل خفض واشنطن جزءاً من الرسوم الجمركية على البضائع الصينية. وبعد عودة الهدوء لجبهة الرئيس ترامب مع الصين، عاد ليصعّد الضغط -في منتدى دافوس الاقتصادي- على الاتحاد الأوروبي عبر التلويح بفرض رسوم جمركية على صادراته من السيارات. لكن أوروبا التي تخاف تداعيات هذا التصعيد، وأن تجد نفسها ملزمةً بتوقيع اتفاقية أمرّ من تلك التي وقّعتها الصين، تحاول التهدئة والتوصل سريعاً لاتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، سواء على لسان رئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون دير لاين»، أو فرنسا التي قررت إرجاء تسديد الضريبة على الشركات الرقمية التي أثار فرضُها غضباً أميركياً عارماً.
وأعلن الرئيس ترامب في مقابلة مع قناة «سي إن بي سي»، منذ أيام، على هامش منتدى دافوس، أن التفاوض التجاري مع الاتحاد الأوروبي أصعب من التفاوض مع أي طرف آخر، وأن الأوروبيين «استفادوا من بلدنا على مدى سنوات عديدة‏«. وأضاف: «إذا لم نتوصل إلى شيء ما (اتفاق تجاري)، سأتّخذ إجراءات، وستكون عبارة عن ضرائب مرتفعة جداً على سياراتهم ومنتجاتهم الأخرى (المصدَّرة) إلى بلدنا». وتابع ترامب: «أريد الانتظار حتى أنتهي من الصين. لا أريد أن أنشغل بالصين وأوروبا في الوقت نفسه. الآن انتهينا من الصين»، في إشارة إلى الاتفاق الذي أبرمته واشنطن وبكين مؤخراً.
لقد بدأت القارة الأوروبية العجوز تنظر إلى النظام العالمي الجديد المستند على قواعد ترامب، وفهمت أنه يتوجب عليها عدم الذهاب بعيداً في أي صراعات تجارية أو اقتصادية أو سياسية مع أميركا، لأنها في نهاية المطاف ستكون الخاسر.
كل الخبراء الذين يحللون سياسة ترامب، يرون أن استراتيجيته قائمة على قاعدة «أميركا أولا»، وعلى «مصلحة أميركا الاقتصادية قبل كل شيء»، وهي تتعارض مع القيم الاستراتيجية المشتركة التي عمل عليها رؤساء الولايات المتحدة خلال مئة سنة الأخيرة. وبتعبير آخر، فإن الرؤية التقليدية الأميركية للعالم، كما جسّها الرئيس السابق باراك أوباما، تشهد الآن زلزالا مدوياً على يد ترامب. ومن ذلك هذا الانكماش الاستراتيجي والتغيير التكتيكي الذي غيّر وما يزال يغير الكثير من الأمور في العلاقات الدولية، التجارية والاقتصادية والعسكرية.
الرئيس ترامب يرى نفسه صاحب ورئيس شركة كبرى تملك العالم، بينما كان الرئيس أوباما، وبوش الابن قبله، يعتبران نفسيهما رئيسين لدولة هي «دركي العالم»، وهنا يكمن الفرق! كل دولار تنفقه أميركا على المنظمات الدولية، وكل اتفاقية تجارية، ولو كانت خاضعة لقواعد التجارة العالمية، يقيسها ترامب وفقاً لميزان «أميركا أولا»، بينما كان أسلافه مقيَّدين بأعراف دبلوماسية واستراتيجية وتقاليد تفرض على الولايات المتحدة تواجداً يحظى بالإعجاب في كثير من المؤسسات والمحافل الدولية، ما يجعل واشنطن تحترم الاتفاقيات الدولية، وتلتزم بتحالفاتها وبالأخص مع الدول الغربية.. لكن كل هذا تغيّر الآن.
في دافوس، وتحديداً في المنتجع الواقع بجبال الألب السويسرية، كانت الاستدامة الكلمة المفتاح في النسخة الأخيرة للمنتدى الذي بدأ تنظيمه سنوياً منذ عام 1971، إذ تم توزيع كعوب أحذية بمسامير للمشاركين لتشجيعهم على السير في الشوارع التي يغطيها الجليد بدلا من استخدام السيارات، بينما صُنع طلاء اللافتات من الطحالب البحرية. لكن الخاص والعام يفقه أن مواقف ترامب المناهضة للطاقة المتجددة، وانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ التي تم التفاوض عليها في عهد سلفه أوباما، ودعمه لقطاع الوقود الأحفوري.. كل ذلك أثّر على جهود العالم بأسره في مجال مقاومة الاحتباس الحراري إلى حين. وقد لخصت «تونبرغ» في دافوس كل هذا بكلمات معبّرة : «لم يتم إحراز شيء لمكافحة تغير المناخ رغم الحملة الواسعة في هذا الصدد.. نحارب جميعُنا من أجل البيئة والمناخ. إذا نظرتم إلى الأمر من منظور أوسع، لم يتم إنجاز شيء. سيحتاج الأمر لأكثر من ذلك بكثير. إنها مجرد البداية».