معلوم أن كتاب «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي»، هو للمفكر الجزائري مالك بن نبي، وقد كتبه بمصر عندما كان منفياً خلال حرب التحرير الجزائرية (1954-1962). و«بن نبي» متميزٌ على أبناء عصره في أنه كان معنياً بالدرجة الأولى ليس بتوصيف التخلف والانحطاط في مجالنا الحضاري وحسب، بل وباقتراح تصورات وأفكار لاستعادة النهوض واستئناف الحضارة. ثم إنه ما بقي في المجال الثقافي والحضاري، بل اهتم بالنهضة التي تحققت في مصر بفضل ثورة 23 يوليو 1952، وبالدور المركزي الذي صارت تلعبه مصر من خلال مؤتمر باندونغ (1955)، وبالفكرة الآسيوية الأفريقية، وبجبهة عدم الانحياز والحياد الإيجابي. فعندما تدخل البلدان العربية الكبرى والوسطى، مثل مصر والمغرب والسعودية والعراق والجزائر بعد الاستقلال، في العالم الجديد الذي يُصنع في الصين والهند وإندونيسيا ويوغوسلافيا، يظهر مجال استراتيجي وحضاري هائل، يستطيع أن يفرض توازُناً على مستوى العالم من أجل السلام والنهوض والتنمية الاقتصادية في العالم الثالث.
كل هذه التصورات، ظهرت في عناوين كتب «بن نبي» بين عامي 1955و 1965. أما في كتاب «مشكلة الأفكار» فاعتبر «بن نبي» أنّ الانحطاط الحضاري والسياسي الذي تنامى في حقبة ما بعد الموحِّدين (الدولة المغربية التي مدت سيطرتها إلى الأندلس) أدخل الأمة في حِقَب «القابلية للاستعمار». لذلك، ومنذ القرن الـ17 حصل انكماش شديد مكّن الاستعمار الأوروبي من الاستيلاء على العالم الإسلامي. والخروج من القابلية للاستعمار، يكون باستعادة مقومات الحضارة، وبتحرير الروح والإرادة من الغلبة الاستعمارية، وبالاندفاع نحو عوالم الحرية التي تتبلور في آسيا وأفريقيا.
عندما توفي «بن نبي» عام 1975، كان قد مر بتجربة قصيرة في العودة إلى الجزائر بعد الاستقلال، ثم ما لبث أن عاد إلى المشرق (إلى سوريا)، حيث أقبل على نشر كتبه التأملية والمتشائمة. وأذكر أنني أجريتُ مقابلةً معه لمجلة «الفكر الإسلامي» التي كانت تصدرها دار الفتوى بلبنان عام 1971، وكان همه النزوع الاحتجاجي الذي بدأ يتفشى بين الشبان المتدينين، والذي يَخشى منه على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وعلى الرؤية الإصلاحية والنهضوية للإسلام. اعتقد «بن نبي» في سنوات حياته الأخيرة أن المشكلة ليست في الأفكار، بل في تفرّق الدول الكبرى التي ينبغي أن تقيم «متَحدَ» الحرية والنهوض، وزرع إسرائيل في الديار العربية، والتصدعات التي ظهرت في الدول الوطنية لأسباب متعددة. والثقة بالدين أمرٌ جيد، لكنّ الاعتقاد أنّ الإسلام عنده حل لكل المشكلات هو وهمٌ مكْلف كثيراً.
ومعظم المفكرين العرب المعاصرين، مثلهم مثل «بن نبي»، قالوا بانحطاط الألف عام الأخيرة، وزادوا عليه بأنّ الموروث ما يزال مسيطراً على الأذهان والتصرفات، وهو الحائل من دون الدخول في الحداثة. صادق جلال العظم علَّل هزيمة 1967 بهيمنة العقلية الخرافية! وفي المؤتمر الذي انعقد بالكويت عام 1974 وحضره عشرات المفكرين العرب، اليساريين والليبراليين، وكان عنوانه «الأزمة الحضارية في العالم العربي»، حصل إجماع على أنّ الموروث الذهني والثقافي يشكّل عقبةً كأداء.
وعلى أي حال، ففي حين مَرَّ «بن نبي» بمرحلة تفاؤل بسبب حركة التحرر من الاستعمار، وبروز دول كبرى حرة في آسيا وأفريقيا والعالم العربي، فإنّ مفكري اليسار العربي في الستينيات والسبعينيات، وهم يرون نهوض الصحويات الدينية ويتابعون الثورة الثقافية لماوتسي تونغ في الصين، ما عادوا يرون علةً لمشكلات العرب غير الموروث الديني والثقافي.
ما هي علاقات أفكار المثقفين بالواقع وتأثيرها فيه؟ تؤثر الأفكار والتصورات والخطط في الواقع بقدر ما يكون التشخيص صحيحاً. والتشخيص بألفية الانحطاط، وسطوة الموروث، كلاهما غير دقيق، بل غير صحيح. فحتى الظاهرة الإسلاموية هي ظاهرةٌ حديثةٌ، ولا علاقة لها بالموروث إلاّ بشكلٍ رمزي. ولأننا رفضنا الفهم والاستيعاب والتجاوز، لصالح القطيعة المعرفية والعداوة الأيديولوجية، فقد أخلينا الساحة للصحويين وغيرهم ممن نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الإسلام. قال لي عبد الوهاب المسيري: ميزة جيل الخمسينيات والستينيات الأفكار والمشروعات وتعدديتها، ومشكلة جيل الثمانينيات وما بعدها ضآلة الأفكار أو انعدامها!

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت