رغم كل الصورة الوردية المتداولة عن فترة الخمسينيات، فإن مستويات المعيشة كانت أكثر انخفاضاً في الخمسينيات مقارنة مع اليوم، والنظام كان حافلاً بالظلم وانعدام المساواة.



من الممكن إيجاد أشخاص من جانبي المشهد السياسي الأميركي يحنّون إلى فترة الخمسينيات. فالكثيرون على اليمين يرغبون في العودة إلى تقاليد البلاد المحافظة ومواقفها الوطنية، بينما يحنّ البعض على اليسار إلى معدلات الضرائب المرتفعة والنقابات القوية وانخفاض اللامساواة. ولكن رغم النمو الاقتصادي السريع الذي شهدته تلك الفترة، فإن قلة قليلة جداً من أولئك الذين يحنّون إلى العودة إلى الخمسينيات سيرغبون في العيش في تلك الفترة حقاً. ذلك أنه رغم كل الصورة الوردية المتداولة عن تلك الفترة، فإن مستويات المعيشة كانت أكثر انخفاضاً في الخمسينيات مقارنة مع اليوم، والنظام كان حافلاً بالظلم وانعدام المساواة.
النساء والأقليات أقل ميلاً إلى أن يكون لديهن حنين إلى الخمسينيات، ولأسباب وجيهة. ذلك أن الفصل كان منصوصاً عليه في القوانين في مناطق واسعة من الولايات المتحدة، والفصل بحكم الواقع كان مطبّقاً حتى في مدن شمالية. وعلاوة على ذلك، فإن الأميركيين السود، المكدسين في غيتوهات، كانوا محرومين من الفرص الاقتصادية بسبب تفشي العنصرية، وكانوا يعانون كثيراً. وحتى في نهاية العقد، كان أكثر من نصف الأميركيين السود يعيشون تحت خط الفقر.
وفضلاً عن ذلك، كانت النساء تستطعن الاشتغال في مجموعة صغيرة من المهن فقط، وقلة قليلة منهن كان لديهن خيار امتهان مهن يحققن من خلالها ذواتهن. غير أن هذا لم يكن يعني أن الذكر الذي يكسب قوت الأسرة كان قادراً دائماً على إعالة أسرة كاملة. ولهذا، فإن نحو ثلث النساء كن يعملن في الخمسينيات، ما يُظهر أن العديد من الأسر كانت في حاجة لدخل ثانٍ.
وبالنسبة للنساء اللاتي لم يكن يعملن، لم يكن الاعتناء بالبيت مهمة يسيرة. ذلك أن «غسالة الأواني» لم يكن مسموعاً بها تقريباً في الخمسينيات، وأسر قليلة فقط كانت لديها «مجففة ملابس»، وأقل من النصف كانت لديهم «غسالة ملابس».
غير أنه علاوة على تفشي العنصرية والتمييز ضد النساء، لم تكن الخمسينيات فترة راحة ووفرة، مقارنة مع اليوم. وعلى سبيل المثال، فبنهاية العقد، وحتى بعد كل ذاك النمو القوي في الخمسينيات، كان معدل فقر البيض هو 18.1 في المئة، أي أكثر من ضعف معدل منتصف السبعينيات.
كما أن أولئك الذين كانوا فوق خط الفقر، لم يكونوا يتمتعون بالوفرة المادية التي وُجدت في العقود اللاحقة. فمعظم شقق البلاد ومنازلها في تلك الفترة كانت صغيرة ومكتظة. وكان متوسط مساحة بيت جديد لأسرة واحدة في 1950 هو 91 متراً مربعاً فقط، أي أكبر بقليل من متوسط شقة بغرفة واحدة اليوم.
ومما زاد الطين بلة أن الأسر كانت أكبر حجماً في الخمسينيات، ما يعني أن الأسر الكبيرة كثيراً ما كانت تضطر للتكدس في فضاءات العيش الضيقة تلك. كما كانت تلك البيوت تفتقر للكثير من الأشياء التي تجعل البيوت الحالية مريحة – ليس «غسالات الملابس» و«مجففات الملابس» فقط، ولكن أيضاً التكييف الهوائي والتلفاز الملون، وفي العديد من الحالات «غسالات الملابس».
ثم إن الأشخاص الذين كانوا يعملون، كانوا مضطرين للعمل ساعات أكثر في السنة. وكانت تلك الوظائف في كثير من الأحيان صعبة وخطيرة. فـ«إدارة السلامة والصحة المهنية» لم تُنشأ حتى عام 1971. وفي 1970، كان معدل الحوادث في أماكن العمل أعلى من معدل اليوم بعدة مرات، ولا شك أن ذاك الرقم كان أعلى في الخمسينيات. واللافت هنا أن الحنين إلى وظائف المصانع القديمة الجيدة تلك شائع بين أولئك الذين لم يضطروا أبداً للوقوف إلى جانب أفران صهر المعادن، أو العمل على خط تجميع غير مؤتمَت لثماني ساعات في اليوم.
وخارج العمل، كانت البيئة أسوأ حالاً مما هي عليه اليوم. إذ لم تكن ثمة «وكالة حماية البيئة»، أو «قانون الهواء النقي»، أو «قانون الماء النقي»، فقد كان تلوث الهواء والماء فظيعاً. وكان الضباب الدخاني الناجم عن تلوث الهواء في بيتسبرج في الخمسينيات يحجب الشمس. كما أن أمد الحياة في نهاية الخمسينيات كان هو 70 عاماً فقط، مقارنة مع أكثر من 78 اليوم.
وبالتالي، فالحياة في الخمسينيات، وإنْ كانت أفضل بكثير من العقود التي قبلها، لم تكن تشبه ما تمتع به الأميركيون بعد عقدين على ذلك. ففي تلك الفترة، تغير الكثير بسبب القوانين والسياسات التي حدت من التمييز العرقي والنوعي أو حظرته، بينما خفضت سلسلةٌ من البرامج الحكومية معدلاتِ الفقر ونظّفت البيئة.
ولكن علاوة على هذه التغييرات، استفادت البلاد من نمو اقتصادي سريع في الخمسينيات وفي العقود التي تلتها. وكان من نتائج تحسن تقنيات الإنتاج واختراع منتجات استهلاكية جديدة توفرُ ثروةٍ أكبر بكثير بحلول السبعينيات، مقارنة مع الخمسينيات. ثروة ساعدت النقاباتُ القوية والبرامجُ الحكومية على توزيعها، ولكن النمو هو الذي خلقها.
وعليه، فإن الخمسينيات لا تستحق الكثير من الحنين الذي يشعر به بعض الناس إليها اليوم. ورغم أن العقد لم يخلُ من دروس، بخصوص كيفية جعل الاقتصاد الأميركي أكثر مساواة بفضل النقابات القوية والتقنين المالي الجيد، فإنه لم يكن فترة مساواة عظيمة عموماً. ورغم أنه كان فترة تقدم وأمل كبيرين، فإن الجدوى من التقدم والأمل هو أن تتحسن الأمور لاحقاً. ووفق معظم المعايير الموضوعية، فإن الأمور أفضل بكثير اليوم مما كانت عليه يومئذ.
*أستاذ المالية سابقاً بجامعة ستوني بروك الأميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»