يحيط بالعاصمة الهندية نيودلهي عدد من التلال، أحدها يقع في قلب نيودلهي ويسمى «تل رايسينا». وعلى قمته بُني القصر الرئاسي. وقبل خمس سنوات، قررت الحكومة الهندية تنظيم مؤتمر سنوي متعدد الثقافات، بتعاون مع مركز الأبحاث المرموق «مؤسسة المراقب البحثية»، وأطلقت عليه اسم «حوار رايسينا»، وذلك بهدف مناقشة التعاون بخصوص طيف من المواضيع السياسية الدولية وبحث آفاق وفرص الاندماج الآسيوي، إضافة إلى اندماج آسيا مع العالم بشكل عام.
النسخة الخامسة من هذا المؤتمر عقدت الأسبوع الماضي، وبات المنتدى الأبرز للشؤون الاستراتيجية في الهند الذي يتناول سلسلة واسعة من التحديات التي تواجه المجتمع العالمي، ويتيح فرصة اكتشاف آراء البلدان الأخرى ومواقفها بشأن مواضيع مختلفة. وعلى غرار كل عام، شارك في نسخة هذه السنة قادة عالميون في السياسة والتجارة والإعلام والمجتمع المدني من أكثر من 100 بلد.
«حوار رايسينا» هو النسخة الهندية لـ«حوار شنجريلا» الذي يعقد كل سنة في سنغافورة. وإذا كان العديد من الزعماء قد تحدثوا في المؤتمر، فإن الهند اغتنمت هذه المناسبة لإبراز مساهمة نيودلهي في الجهود العالمية من أجل اكتشاف الحلول وتحديد الفرص وتوفير الاستقرار عبر تقديم وجهة نظرها حول الحوار الاستراتيجي.
الحوار غطى خمسة أعمدة، من النزعات القومية التي تتحدى المؤسسات العالمية والعمل المشترك إلى دور التكنولوجيا والنقاشات حول هيكلة التجارة العالمية والقوة العسكرية والاقتصادية. وشملت موضوعاتٌ أخرى أجندةَ التنمية العالمية والعلاقة بين الفرد والدولة في عصر المجتمعات الرقمية والفضاء السيبراني. هذا العام، ركز المؤتمر، الذي تدعمه وزارة الخارجية الهندية، على الأوضاع الجيوسياسية والجيواقتصادية.
وزير الخارجية الهندي «جاي شانكار» شدد أثناء الكلمة التي ألقاها بهذه المناسبة على أن الهند ليست «قوة اضطراب» على الصعيد الدولي، وأنها تهدف إلى أن تكون «قوة مساهمة في الاستقرار»، مذكِّراً الجمهور بأن ثمة أصلا ما يكفي من قوى الاضطراب في العالم. كما أشار إلى أن الهند ليست «أنانية أو ذات أهداف تجارية»، وقد أتاح تصريحُه نظرة على هدف الهند في السياسة الخارجية وسط خطابات زعماء البلدان الأخرى.
وقد كان ثمة أكثر من 700 مشارك دولي في هذا المؤتمر، من بينهم متحدثون من دولة الإمارات العربية المتحدة. ومن بين أبرز المشاركين رئيسا وزراء الدانمارك ونيوزيلندا، والرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي، ورئيسا وزراء كندا والسويد السابقان، ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف.
في «حوار رايسينا» لهذا العام، انتقد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مبادرات من قبيل استراتيجية «آسيا- المحيط الهادي» الأميركية وفكرة «نظام قائم على القواعد». وبعد أن وصفها بـ«المثيرة للانقسام» وبأنها محاولة لـ«إعادة ترتيب البنيات الحالية»، لفت لافروف إلى أن وصف منطقة «آسيا- المحيط الهادئ» بـ«الهند- المحيط الهادي» إنما يهدف إلى استبعاد الصين. وأبرز أن المصطلح ينبغي أن يكون موحِّدا، وليس مثيراً للانقسام، مشيراً إلى أن «لا منظمة شنغهاي للتعاون ولا مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) تقوم على الإقصاء». وأضاف أن مفهوم «الهند- المحيط الهادئ» الجديد، الذي تدفع به الولايات المتحدة واليابان وآخرون، هو «محاولة لتغيير» البنية الحالية.
وكانت الهند والولايات المتحدة قد وقعتا «رؤية استراتيجية مشتركة» بخصوص منطقة آسيا- المحيط الهادي والمحيط الهندي، معبرتين عن رغبتهما في تعاون بحري أكبر بين البلدين في 2015. غير أن الهند والولايات المتحدة، ولئن كانتا تسميانها استراتيجية الهند- المحيط الهادي، فإن لديهما خلافات بشأن مقاربتيهما. ذلك أن الهند كانت حذرة وحرصت على أن توضح أن سياسة الهند- المحيط الهادئ التي تتبناها لا تستهدف أي بلد بعينه، في إشارة إلى الصين. هذا في حين يُنظر إلى سياسة «الهند- المحيط الهادئ» الأميركية باعتبارها سياسة احتواء.
«حوار رايسينا» يوفر أيضاً فرصة لدعوة بلدان تعتبر مهمة بالنسبة لسياسة الهند الخارجية. ومن هذه البلدان أفغانستان. فخلال العقد الماضي، صعدت الهند تدريجيا إلى الواجهة باعتبارها شريكاً محورياً لأفغانستان. وإلى جانب دعم البنى التحتية للبلد الذي تمزقه الحرب، أنشأ البلدان ممراً جوياً للشحن في 2017 يربط كابول بنيودلهي من أجل المساعدة على دعم اقتصاد أفغانستان، وبالتالي التحول إلى شريك أساسي لها.
وفي نسخة هذا العام من «حوار رايسينا»، قدّم الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي أيضاً وجهة نظر بلده بشأن الحفاظ على العلاقات مع جنوب آسيا. ولئن اعترف بأن العلاقات الهندية- الباكستانية المتوترة أثّرت على أفغانستان بشكل كبير، فإنه أشار إلى أن أفغانستان أكدت لإسلام آباد في عدد من المناسبات أن علاقاتها الوثيقة مع نيودلهي لن تؤثّر على علاقتهما الثنائية.
ومن الواضح أن «حوار رايسينا» بات أرضية مهمة للقاء بالنسبة للهند والبلدان الصديقة لها. إذ يتيح المؤتمر فرصة للاطلاع على التفكير الاستراتيجي الهندي وكيفية تطور سياسة الهند الخارجية بينما تواصل صعودها إلى الواجهة كقوة نامية على الساحة العالمية.
*رئيس مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي