لم تتمكن أي حضارة أو ثقافة أو معتقد أو دولة أو قانون، الانتصار على العنف بشكل نهائي (بدأ العنف عندما قتل قابيل شقيقه هابيل)، حكماء ومفكرون ومصلحون على امتداد التاريخ أمثال كونفوشيس وبوذا ولاتسو، وحديثاً فولتير وروسو ونيتشه وألبير كامو، وعندنا الشيخ محمد عبده وقاسم أمين والأفغاني وشبلي شميل وفرح أنطون والطهطاوي، من دون أن ننسى جبران خليل جبران وطه حسين وميخائيل نعيمة ونجيب محفوظ والشابي (وحتى في الجاهلية الشاعر زهير بن أبي سلمى أو طرفه بن العبد أو لبيد)، كلهم رفعوا أفكارهم وشعرهم وطوابعهم السلمية ودعواتهم إلى التسامح على شكل ديني يلتقي اليهودية والمسيحية والإسلام، رفعوا كتبهم الفكرية والدينية لكنهم فشلوا كلهم، حتى الإنجازات المجتمعية الزراعية والصناعية ثم التكنولوجية، عجزت عن امتصاص نوازع القسوة والعدوانية، حتى وافتنا العولمة بحضاراتها المتضاربة، لتفتح العنف عبر تسهيل انتشاره وعدواه تسليعاً واستعباداً في أدوات التواصل والتلفزة والأفلام السينمائية، فصار العنف بضاعة يومية يصدرها الجميع ومن كل المنقذين والأنظمة.
والغريب أنه كلما تطورت هذه الوسائل التكنولوجية، تراجعت الثقافات التجديدية والإنسانية والسلمية وحتى الابداعية والتربوية والفنية، كأنما العنف يساكن ويلازم كل ما يجترحه الإنسان ويصنفه مواجهة بين الحرب والسلم بين الخير والشر: لكن يتلاشى السلم، وتستمر الحروب والمعارك داخل الذات بين الشر والخير.
صحيح، أن المعتقدات والفلسفات القديمة والحديثة قد انتصرت «لكنها انتصرت في ذاتها» لا على ذوات الآخرين، ونتساءل ما نفع كل هذه الإنجازات الروحية (على الذات الملتبسة والنوازع والأهواء الفردية والجماعية بشكل رمزي أو شكلي)، إذا عجزت عن منع اندلاع حرب واحدة، أو منع قتل إنسان؟ هل أثرت الكونفوشيوسية حتى اليوم في تغيير وجهات الصين المادية والاقتصادية! هل منعت اختراع ولو بندقية واحدة أو صاروخ أو قنبلة نووية؟ فالجهاد لإنقاذ الذات وتنزيهها عن غريزة الشر التدميرية، هل وفرّ الحرية للبشر؟ وكم تم تلقيب عصرنا اليوم بشتى المواصفات: عصر الحروب المدمرة والمجازر والصراعات الإثنية والمذهبية والتعصب الأيديولوجي، عصر الاضطهاد بلا رحمة لكل معارض أو مختلف.
من هنا نقول: إنه من الصعب إيجاد فوارق اليوم في هذا المضمار بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، بل نقول إن الاجتراحات الثقافية للمعتقدات الكبرى، وللأفكار العظيمة كأنها جواهر ضائعة في صحراء بلا حدود، يعني أنه ما من شيء تغير في ما يمكن تسميته القوى الحيوية الجامحة عند الإنسان، التي يستمد العنف ومتعة التدمير مادتهما منها، ذلك أن منابع العدوانية لم تعد في الخارج فقط، بل داخل أغوارنا تلازم طبيعتنا وطاقاتنا الحيوية بتوتراتها وصراعاتها.
لم تعد الفواصل الاجتماعية وأشكال البؤس الطبيعي، التي يفترض أنها تولد طاقاتها الاجتماعية بنفسها، والتي تدعو إلى الغيرة القاسية، ولم يعد واقع المجتمع الكاسد هو الذي يستلبنا، ذلك أن منابع العدوانية هي أولاً وأخيراً داخل أعماقنا تلازم طبائعنا البشرية، وجبلاتنا التكوينية.
من هنا إن فكرة الخلاص لم تعُد تأتي لا من الخارج ولا من جذور غير متصلة برغباتنا، والرهان على مخلص من الخارج يحمل المن والسلوى، وينقذ البشرية من ضلالها ويقيم السلم على الأرض، ليس أكثر من تعزية صغيرة في جنازة طويلة، لا سيما وأن مواصفات المنقذ كما عرفناها على امتداد العصور تتلخص بذكورية عنيفة أحادية مغلقة.. كل خلاص من الخارج باطل، فلا يمكننا الإحساس بأننا أحرار إلا باكتشاف مكامن الخير والشر في ذاتنا، وأن نعرفهما معرفة غير متواطئة وغير مجاملة، إنه امتحان الذات امتحان الأعماق كشاف الحقائق الكبرى الخبيئة في ظلماتنا الداخلية، نكتشفها لا لمتعة الاكتشاف، بل لمحاولة حسم الصراع بين طاقتنا السلبية والإيجابية.