توقع الفيلسوف السلوفيني «سلافوي جيجك» أن تفرز الحركة الاحتجاجية التي تعرفها العديد من دول العالم حالياً موجة جديدة من الراديكالية اليسارية كردة فعل على الشعبوية القومية الراهنة. ومن الوجوه البارزة التي تؤشر لهذا التحول: القيادي «الديمقراطي» الأميركي برني سندرس، والزعيم العمالي الإيطالي جيرمي كوربين، ورئيس حركة «فرنسا المتمردة» جان ليك ملانشون.. وفي إسبانيا وإيطاليا واليونان اتجاهات مماثلة صاعدة.
لا يتعلق الأمر هنا باليسار التقليدي في نغمته الثورية الراديكالية وخطابه الطبقي الاعتيادي، وإنما بوجه آخر من وجوه الشعبوية الرائجة التي تولدت عن المرحلة الجديدة من الرأسمالية المعولمة.
ما يتعين التنبيه إليه هو أن ديناميكية الشعبويات الجديدة قد فرضت إعادة طرح مسألة العدالة خارج الثنائية الأيديولوجية التقليدية (اليمين الليبرالي واليسار الاشتراكي) بجمعهما بين إشكاليتين متمايزيتين: إشكالية العدالة التوزيعية المتعلقة بالاندماج الاجتماعي، وإشكالية الاعتراف المتعلقة بالهويات وأنماط تشكل الذاتيات المجموعاتية.
وإذا كانت خطوط الصراع السياسي اليوم في الديمقراطيات العريقة تتمحور حول القوى المندمجة في منظومة العولمة والفئات الواسعة المقصية منها، فإن ما يعقّد عملية الاصطفاف السياسي هو أن هذه الفئات المتمردة تتبنى في خطابها الاحتجاجي قاموساً هوياتياً غريباً على حركية الاستقطاب السياسي. وفي مقابل الشعبويات اليمينية الحاكمة في عدة بلدان كبرى من العالم الصناعي، تلجأ الاتجاهات اليسارية الجديدة التي قامت على أنقاض الأحزاب الاشتراكية المنهارة إلى نمط من الشعبوية اليسارية تنزع إلى الوصول إلى عقد ائتلاف واسع بين القوى الاجتماعية المناوئة للعولمة الليبرالية التي ترى أنها انحرفت خطأً نحو الخطاب القومي المتعصب الذي هو أحد الآليات الفاعلة لتمويه طبيعة الصراع الاجتماعي القائم.
ما نراه هو أن الاتجاهين يخلطان بين إشكاليتين متمايزتين، وإن التبستا أحياناً: إشكالية العدالة التوزيعية التي طرحت منذ نشأة الرأسمالية الحديثة وهيمنت ثلاثة قرون على الصراع الأيديولوجي، وإشكالية الاعتراف الهوياتي التي طرحت مع انبثاق الفكرة القومية وارتباطها بطبيعة الدولة الحديثة.
وإذا كانت الإشكالية الأولى تنطلق من اعتبارات النظام السياسي والقانوني القادر على ضبط العدالة والإنصاف داخل مجتمعات متعددة يتمتع أفرادها بالمساواة الأصلية في الحقوق والفرص، فإن الإشكالية الثانية تقف عند طبيعة الانتماءات الثقافية والقيمية للأفراد التي تولّد أنماطاً من المطالب الخصوصية ضمن نموذج اجتماعي يتأسس على المساواة بين أفراد أحرار.
والمعروف أن نموذج الدولة القومية الحديثة سعى إلى صياغة تأليفية بين المطلبين من خلال مأسسة عملية العدالة التوزيعية في قوانين وآليات تكفل الحقوق الفردية المتساوية من جهة وتعبّر من وجه آخر عن الهوية القومية العضوية، وإن ظلت هذه التأليفية موضوع جدل مستمر بين الخطاب القومي في تصوره للأمة كهوية روحية ملتحمة تتجاوز التناقضات الاجتماعية والخطاب اليساري في نظرته للدولة الليبرالية من حيث هي طرف من أطراف الصراع الاجتماعي.
ومع أن مسألة الاعتراف ظهرت مبكراً في المثالية الألمانية مع فيخته وهيغل، إلا أنها لم تتجاوز وقتها الإشكالات التي تطرحها فلسفات الوعي الحديثة في تصورها للذات المتمحورة حول نفسها، غير أنها تحولت في العقود الأخيرة إلى موضوع أساسي في اتجاهين متمايزين: حقوق وتطلعات المجموعات الاجتماعية ذات الهويات الخصوصية (اليسار الجديد) وحقوق الجماعات الثقافية واللغوية التي تشكلت بوصفها أقليات ضمن الدولة المركزية.
غير أن الجديد في الأمر هو أنه مع انحسار الحركة العمالية التي شكلت عمود الصراع الاجتماعي الطبقي سابقاً، أصبح المعجم الهوياتي هو محور الاستقطاب السياسي في المسلكين: المسلك التوزيعي والمسلك الاعترافي، بما يعني أن مقتضيات العدالة في وجهيها المتمايزين تحولت إلى مطالب هوياتية تقنع طبيعة التحديات الراهنة للرأسمالية المعولمة.
وكما تبين الفيلسوفة الأميركية «نانسي فريزر»، فإن أكبر خطر يواجه الديمقراطيات الليبرالية هو الانحراف بالجدل العمومي في اتجاه النقاش حول المرجعيات القيمية المتعلقة بالهويات والمعتقدات الجوهرية، باعتبار أن السمة التعددية للمجتمعات الحديثة تجعلها غير مهيأة لحسم هذه المسائل معرفياً أو إيمانياً. وهكذا يظهر أنه ولو اعترفنا للمجموعات الثقافية والمعنوية بحقوق تميزها وأصالتها، فإن هذا الاعتراف لا يمكن أن يصل إلى التنكر للمنظومة المرجعية الضابطة للتعددية الحرة، ولذا يظل هذا الاعتراف بالضرورة ناقصاً ومقيداً، وفي أحيان كثيرة لا يمكن أن يتجاوز دائرة الوعي الفردي الحر.
إن الدولة الحديثة لا يمكن أن تتجاوز في تحقيق المطالب الاعترافية ما يتعلق منها بالحقوق المترتبة على رفع القيود الثقافية المعيقة للمساواة الاجتماعية، ومن هنا يمكن القول إن العدالة التوزيعية الحقيقية تتخطى مجرد المساواة القانونية الصورية وتضمن عملياً التكافؤ في مواقع التأثير والفاعلية (أي ما دعاه الفيلسوف والاقتصادي الهندي «امارتيا سن»، الكفاءات capability).
وهكذا يتبين أن ثنائية المساواة والاعتراف بدأت تدخل في أفق نظري أيديولوجي جديد، وستشهد في المرحلة القادمة القريبة صياغاتها النظرية بعد انقشاع الموجة الاحتجاجية الحالية.