مهما تعددت الدول التي تستخدم العملية الديمقراطية في الحكم وإدارة الدولة، تبقى أميركا الأفضل على مستوى العالم، فهي الأفضل في حرية التعبير، وفي حرية الصحافة، وفي حق الوصول إلى المعلومة والحصول عليها، وفي ملاحقة الفساد، وإمكانية التقاضي ضد أي جهة أو فرد، في داخل أميركا أو خارجها، مهما علا منصبه الرسمي ونفوذه أو موقعه الاجتماعي والمالي، وهذه حقيقة متفق عليها بنسبة كبيرة، على الرغم مما قد تمثله الولايات المتحدة سياسياً لدى البعض في هذه البقعة أو تلك، في هذا البلد أو تلك القارة، وعلى الرغم مما قد ترتكبه أميركا من أخطاء في سياستها الخارجية، وفي قراراتها الاستراتيجية تجاه كثير من القضايا، وهذا أمر عاديُّ جداً وطبيعيّ.
أميركا ليست ملاكاً معصوماً من الخطأ، بل هي دولة مؤسسات مدنية ديمقراطية، تعمل وتتخذ القرارات التي قد تخطئ في بعضها، لكنها تقيّم الخطأ وتستفيد وتتعلّم، وتغني مسيرتها التي يأتي في مقدمها الحرص على التطوير الدائم والمستمر، وعلى الرغم من كل ما ذكر عنها وسيذكر في المستقبل، فهي تعلم أنها لن تحظ بحب شعوب الأرض كلها، وتدرك في الوقت ذاته أنها لا تستطيع تجنب كراهية من هنا أو من هناك، لذا، فإنها لن تحصل على ما تحتاجه وتريده من بقية شعوب الكوكب.
بهذا التمهيد المقتضب، يعرض كتاب (السياسة الزائفة) لمؤلفه جيسون بيسنوف، كيف أنه في فوضى عالم اليوم، ومع تعدد مصادر المعلومات التي تولّد بدورها روايات متعدّدة، تبقى الصدقيّة لكسب حرب الأفكار هي المفتاح الوحيد، وإذا ما انتفت هذه الصدقيّة -المفتاح، فإن الحكومات تلجأ إلى حملات دعائية، يكتنفها الكثير من الزيف لإنشاء حركات شعبية في ظاهرها على الأقل، لكنها متأسسة في الخفاء لتعزيز البرامج السياسية والحملات التجارية، هنا يلج الكاتب إلى موضوع سمّاه (المال السياسي)، وكيف يستخدم في توجيه السياسات، يقول: لقد عاشت الولايات المتحدة فترات سياسية عصيبة في السنوات الأخيرة، في إشارة إلى ظهور حركات يمينية متطرفة وأخرى تعارضها، إلا أنه من بين هذه الحركات من كانت تتحرك وتحتشد وتحتج، وفق تعليمات وأوامر من أصحاب المصالح، وقد تجاوز هذا الأمر المعتاد ليؤثر في صميم العملية الديمقراطية الأميركية، وكانت القيم الأساسية التي قامت عليها حكومة الولايات المتحدة الأميركية، على المحك، بسبب استخدام المال السياسي على الدعايات الشعبية (الزائفة)، في محاولة لإقناع الرأي العام بصدق توجّهٍ ما أو تيارٍ سياسيٍّ ما، في إشارة هنا إلى كيفية تحويل النشاط السياسي إلى محاولة ضغط مخيفة من قبل الأثرياء والنافذين، وذلك عبر سلسلة من المقالات القصيرة الشاملة لحركات مثل حزب «الشاي»، وصناعة النفط، وصناعة التبغ، ومجال البيانات الكبيرة، إضافة إلى كافة وسائل الإعلام الأميركية.
وفي الوقت الذي يعتقد فيه المواطن الأميركي، أن الحملة الدعائية تنطلق من قواعد شعبية على الأرض، تكون جهود الحكومات، والشركات الكبرى، والمؤسسات الدينية، قد جيرت تلك الحملات لمصالحها الخاصة، لقد أصبحت العملية سائدة للغاية في العقدين الأخيرين، يقول المؤلف: إلى أن وصلت الأمور إلى نقطة تحوِّل في عصر (الأخبار المزيفة) و(الحقائق البديلة)، فضعف التمييز بين الحقيقة والتلفيق، وتلك مشكلة كبيرة ومتنامية فيما يسمى (النشاط الشعبي)، ويضيف: السياسة فوضويّة، لا يكون للأصوات الفردية أي تأثير فيها، لكنه يمكن أن تكون هنالك طبيعة بعيدة المنال للتمثيل السياسي، حيث يقضي المسؤولون المنتخبون معظم وقتهم في استمالة المانحين، والتحدث مع السياسيين الآخرين في العواصم أو في واشنطن العاصمة، بعيداً عن الشوارع الرئيسية وسكان البلدة، الذين كانوا السبب في وضعهم في السلطة، ويدينون لهم بالفضل.
*إعلامي وكاتب صحفي