استغل المتطرفون ما أتى القرآن على ذكره عن «الولاء والبراء»، فأضافوا إليه من كلام البشر، وأفرطوا في تأويله، وتوسعوا فيه بما يخدم أفكارهم ومصالحهم ومنافعهم، وفي مطلعهم جماعة «الإخوان» التي عملت منذ نشأتها على إذكاء تصور الولاء والبراء في نفوس أتباعها، من خلال رسالة العقائد لمؤسسها حسن البنا، وكتابات منظرها الأول سيد قطب عن «المفاصلة»، لتفتح الباب واسعاً، أمام التنظيمات التكفيرية كي تتبنى هذا التصور، الذي أودى بها إلى الإيغال في الانعزال والتكفير ثم القتل والتدمير.
وفي ركن التجرد من رسالة التعاليم يقول البنا: «أريد بالتجرّد أن تخلّص لفكرتك ممّا سواها من المبادئ والأشخاص، لأنّها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها.. والناس عند الأخ الصّادق واحدٌ من ستة أصناف: مسلم مجاهد، أو مسلم قاعد، أو مسلم آثم، أو ذمّي معاهد، أو محايد، أو محارب، ولكلٍّ حكمه في ميزان الإسلام، وفي حدود هذه الأقسام توزن الأشخاص والهيئات، ويكون الولاء والعداء».
لكن «الإخوان» لم يلتزموا بها التصور من الناحية العملية، ومالوا إلى التُقية، فداهنوا الجميع، بمن فيهم أهل الكتاب، كتكتيك مرحلي، وهي مسألة تعلموها من مؤسسهم الذي كان يقنع أتباعه بأنه ثائر ضد الاحتلال الإنجليزي والملك بينما هو صناعة الإنجليز ومادح الملك سراً.
ومع سيد قطب أخذت فكرة الولاء والبراء صورتها الأكثر تطرفاً، فها هو يقول في كتابه «الظلال»: «إنه لا يجتمع في قلبٍ واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون.. ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه، إذا هو والى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة، سواء كانت الموالاة بمودة القلب، أو بنصره، أو باستنصاره كذا.. ليس من الله في شيء لا في صلة ولا نسبة ولا دين ولا عقيدة، ولا رابطة ولا ولاية، فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تماماً.. وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية تصوراً ومنهجاً وعملاً، الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق، والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام».
ويقسم قطب البشرية إلى حزبين اثنين: حزب الله وحزب الشيطان، وإلى رايتين اثنتين: راية الحق وراية الباطل، ليضع بهذا حداً فاصلاً بين من أسماهم المؤمنين، ومن هم ليسوا كذلك، ليعطي فرصة لبعض البشر ممن اعتنقوا أفكاره أن يحكموا على سائر الناس بالكفر أو الإيمان، وفي هذا تأله، أو منازعة لله في أمر لم يسنده لأحد من خلقه.
وقد تأثرت مختلف التنظيمات المتطرفة التي أسمت نفسها «جهادية» بهذا التصور، وشكل الولاء والبراء ركناً أساسياً في أفكارها إلى جانب الحاكمية، وأديا معا إلى حملها السلاح، ومخاصمة الدولة الوطنية الحديثة بدعوى أنها لا تقوم على أساس إسلامي.
وقد لعبت مسألة الولاء والبراء دوراً بارزاً في تشكيل جماعة «التكفير والهجرة» أو جماعة المسلمين كما سمت نفسها، بما جعلها تنتهج مبدأ التكفير لكل من ارتكب كبيرة وأصر عليها، من الحكام والمحكومين والعلماء، وقادها إلى أن تعتزل المجتمع بدعوى أنه جاهلي.
وفي أوساط السبعينيات ألف أبو محمد المقدسي، وهو من غلاة ما تسمى بالسلفية الجهادية، كتيبا عنوانه «ملة إبراهيم» صار مرجعا للتكفيرين والمتشددين في مسألة الولاء والبراء إلى اليوم.
ويؤمن تنظيم «القاعدة» بهذه المسألة، الأمر الذي يتضح في كتاب أيمن الظواهري المعنون بـ«الولاء والبراء عقيدة منقولة وواقع مفقود»، والذي يدعي فيه أن المسلمين أصبحوا في عداد المرتدين، وأن التاريخ شهد صراعاً محتدماً بين قوى الكفر والطغيان والأمة المسلمة، وفيه أيضاً يكفر كل المتعاونين مع جيوش الدول العربية وتكفير العاملين بأجهزة الأمن والقضاء، ومن يفرضون الدساتير، ويحكمون بالقوانين.