في عام 1993 أنشأ الاتحاد الأوروبي جهازاً رسمياً يعكس وحدته الدبلوماسية ووحدته الأمنية. وفي عام 2011 أنشأ الاتحاد جهازاً دبلوماسياً نشره في معظم دول العالم وعيّن على رأسه مسؤولاً أقرب ما يكون إلى وزير خارجية الاتحاد (الإيطالية فدريكا موغوريني).
ولم يكتفِ الاتحاد بإقامة المؤسسات فقط، ولكنه ذهب إلى اتخاذ مبادرات عملية مشتركة في مناطق مختلفة من العالم. منها الاتفاق النووي مع إيران الذي انسحبت منه الولايات المتحدة بقرار من الرئيس ترامب، ومنها الحملة العسكرية لاجتثاث عصابات القرصنة البحرية في القرن الأفريقي. وتكريساً لشخصيته المميزة، أقام الاتحاد علاقة مباشرة مع الصين ونظّم مؤتمراً مشتركاً مع دول الجامعة العربية.
ويجري البحث الآن في إقامة جيش أوروبي مشترك، خاصة بعد أن طعن الرئيس الأميركي بصدقية وبفعالية حلف شمال الأطلسي. من هنا السؤال: كيف يمكن تفسير هذه المبادرات الاتحادية في ضوء المواقف الأوروبية المتناقضة من العديد من قضايا العالم؟ على سبيل المثال في فنزويلا مثلاً، تؤيد معظم الدول الأوروبية المعارَضة الفنزويلية. غير أن إيطاليا تقف إلى جانب الرئيس الحالي.
وفي ليبيا تؤيد فرنسا الجنرال حفتر، وتعارضه إيطاليا.
وعلى سبيل المثال أيضاً، فان ألمانيا تصرّ على التعاون مع روسيا لمدّ خط الأنابيب الثاني لنقل الغاز الروسي من سيبيريا – عبر بحر البلطيق - وتعارضه دول أوروبية عديدة في مقدمتها بولندا وكرواتيا.
وفيما تؤيد إسبانيا طلب تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، تعارضه معظم الدول الأخرى وفي مقدمتها النمسا التي تهدد باستخدام حق «الفيتو» ضد الطلب التركي. وتؤيد هذه الدول طلبات الانضمام من دول البلقان. إلا أن إسبانيا تعارضها بشدة. فإسبانيا دولة كاثوليكية بامتياز.. فيما دول البلقان (صربيا والجبل الأسود) دول أرثوذكسية بامتياز أيضاً.
وفي عام 2015 عندما أقرّ الاتحاد الأوروبي سياسة موحدة تجاه المهاجرين، فارضاً على كل دولة استقبال عدد محدد منهم، رفضت عدة دول القرار جملة وتفصيلاً واعتبرته وكأنه لم يكن. حتى أن بعض هذه الدول مثل تشيكيا وبولندا وهنغاريا، عمد إلى إبعاد المهاجرين بدل استقبالهم، وبقرارات حكومية.
وفي الواقع فإن الاتحاد الأوروبي قد يستطيع فتح صفحة جديدة في العمل المستقبلي المشترك، إلا أنه لا يستطيع أن يلغي التاريخ. والتاريخ يستمر في الذاكرة الجماعية، ويملي ذاته على مواقف دول أوروبية وشعوبها. فتاريخ العلاقات الليبية مثلاً مع كل من فرنسا وإيطاليا قام –ويستمر حتى اليوم- على تنافس الدولتين على الهيمنة على المقدرات الليبية باعتبار أن ليبيا تقع في دائرة نفوذهما وامتدادهما الجغرافي جنوب البحر المتوسط.
وحتى الموقف الإيطالي من فنزويلا، فانه يعكس استمرار تأثير الكرملين على السياسة الإيطالية منذ اتفاق 1909 بين الدولتين.
والموقف الإسباني المعارض لقرار الاتحاد الأوروبي بشأن الاعتراف بكوسوفو دولة مستقلة بعد انفصالها عن صربيا، وبقبول طلب انضمامها إلى الاتحاد، يعود إلى التزام إسبانيا بمبدأ معارضة انفصال أي إقليم عن الدولة الأم.. وتواجه إسبانيا حركتي انفصال قوميتين، واحدة في الشمال (الباسك) والثانية في الجنوب الشرقي (كاتالونيا).
أما الموقف السلبي من تركيا، فهو يعكس ردّ فعل قومي على التوسع العثماني في شرق وفي وسط أوروبا، والذي وصل إلى أبواب فيينا.
لذلك تشكل الذاكرة الأوروبية الجماعية سداً في مواجهة أي محاولة لإدخال تركيا في منظومة الأسرة الأوروبية.
أما الخلاف الألماني – البولوني، فإنه ليس محصوراً بخط الأنابيب. فقبل الحرب العالمية الثانية تفاهمت روسيا وألمانيا على تقاسم بولونيا. وبعد الحرب رفع المستشار الألماني «فيلي براندت» شعار التفاهم الألماني – الروسي متجاوزاً بولونيا وحقوقها ومخاوفها. من هنا السؤال: هل تستطيع أوروبا أن تبني مستقبلها إذا لم تعالج مخلفات ماضيها المثقل بالحروب والصراعات؟