أهي القوة النابذة أم الجاذبة التي ستنتصر في الاتحاد الأوروبي عام 2020؟ الكثيرون يشيرون إلى الأولى، في ظل الحالة الراهنة للاتحاد. فثالث أكبر دولة عضو فيه تستعد للخروج، والشعبويون يشتكون من بروكسيل ويريدون استرجاع «سيادة» بلدانهم، والمحافظون في الشمال يقاومون اندماجاً أكبر في منطقة اليورو.
لكن امرأة تريد دفع الاتحاد الأوروبي في الاتجاه المعاكس هي «أورسولا فون دير لين»، الرئيسة الجديدة لمفوضية الاتحاد الأوروبي. وقد قالت لي «فون دير لين» ذات يوم، عندما كانت ما تزال وزيرة للدفاع في ألمانيا، إن الاتحاد الأوروبي في حاجة لـ«قوة جاذبة، تلعب دور الموحِّد». وقد شرحتْ هذه النقطة أكثر باستعارة. فـ«فون دير لين» أمٌّ لسبعة أبناء، وقد تمكنت على نحو يكاد يفوق قدرة البشر من التفوق والموازنة بين مسارها السياسي وبين الاهتمام بأسرتها الكبيرة وصعبة المراس غالباً. والاتحاد الأوروبي يشبه هذه الأسرة، كما قالت لي. فهو ليس دولة، وبالتالي فإنه لن يكون له «زعيم» أبداً. لكنه يتقاسم مصيراً مشتركاً، حتى وإن كان يواجه دائماً خطر التفكك. ولهذا السبب يحتاج لموحِّد. لأم بشكل أو بآخر.
«فون دير لين»، التي تعتبر ناشطة من الحركة النسائية في حزبها «الاتحاد الديمقراطي المسيحي»، ترتدي شارة الأم بفخر. وبخصوص هذه النقطة ونقاط أخرى، يبدو أنها تتصرف مثل المستشارة أنجيلا ميركل. فمنذ سنوات، تواترت الشائعات على أنها مهتمة بخلافة ميركل. لكن الأرجح أنها كانت تسجل ملاحظاتها فحسب: فخلال معظم فترة حكمها التي تبلغ 14 عاماً، اشتهرت ميركل بين الألمان بلقب «موتي» («ماما»). بيد أن التشابه يتعلق بالأسلوب فحسب، وليس بالجوهر. فميركل، ورغم أنها قادرة على إدارة الأزمات الدولية، فإنها لم يسبق لها أن كشفت أبداً عن رؤية سياسية جريئة. وبالمقابل، أعلنت «فون دير لين» عن عدد من الأهداف الكبيرة للاتحاد الأوروبي. فهي تريد قيادة «لجنة جيوسياسية» تستطيع الوقوف في وجه الولايات المتحدة والصين. وهي عاقدة العزم على منح أوروبا ترقية رقمية وإصلاحاً للهجرة. وعلاوة على ذلك، فإنها تَعد بـ«صفقة خضراء أوروبية» لتصفير كربون الاتحاد برمته بحلول عام 2050.
غير أنها لا تستطيع سوى التعبير عن هذه الرؤى، وليس تنفيذها. وذلك لأن لديها دوراً متحولاً ومتحركاً على نحو مفاجئ، دوراً مفهوماً على نحو سيئ خارج بروكسيل. فالمفوضية كثيراً ما تُدعى الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوروبي، لكنها أقل شبَهاً بحكومة وأكثر شبَهاً بجهاز إداري. ثم إن إدارة المفوضية الأوروبية صعبة بما يكفي، لأنها تتألف من «كلية» تضم 26 مفوضاً آخر ينظرون إلى حقائبهم على أنها حقوق شخصية. على أن الاتفاق مع الهندسة المؤسساتية العامة للاتحاد الأوروبي أصعب بكثير.
فأولاً، هناك البرلمان الأوروبي الذي لم تكن «فون دير لين» ناجحة معه في البداية بسبب الطريقة التي حصلت بها على وظيفتها. فقد اختيرت من قبل زعماء الاتحاد الأوروبي في عدد من الجولات التفاوضية الصعبة والسرية، بعد أن اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اسمها. وكان البرلمان جد مستاء لأنه تعرّض للتهميش، ولم يثبّت «فون دير لين» في منصبها إلا بفارق تسعة أصوات، ثم رفض ثلاثة مرشحين لمفوضيتها، ما أخّر تنصيبها لشهر. وهناك «مجلس الاتحاد الأوروبي»، الذي يقوم فيه وزراء الدول الأعضاء بالتشريع بشكل مشترك مع المفوضية. ثم هناك «المجلس الأوروبي»، الذي يجتمع فيه زعماء الدول من أجل تحديد الاتجاه العام للسياسات وعقد التوافقات.
قائدة أوروبية تفوقت في هذه البيئة هي ميركل في الواقع. فعلى مدى سنوات، تمكنت من إتقان فن تخفيف صخب وتهديدات الزعماء الآخرين. فهي لا تستثار بالاستفزازات، وتصمد وتبقى ثابتة حتى نهاية نوبات الغضب، قبل أن تسمح بلطف حتى لمحاوريها غير العقلانيين بالعدول عن مواقفهم المتصلبة السابقة. إنها زعيمة تساعد على الاستقرار.
«فون دير لين» سبق لها أن خدمت في ثلاث حكومات لميركل (كوزيرة للعائلات، والعمال، والدفاع). وتدرك المرأتان، بشكل غريزي، أن النساء الزعيمات لسن في حاجة إلى الانخراط في رهان قوة مع الذكور المهيمنين، مجازاً أم حرفياً، مثلما فعل ماكرون مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وإذا كان ثمة شخص يمكن أن يحافظ على الاتحاد الأوروبي موحداً ومتماسكاً، فإنه على الأرجح «فون دير لين». فهذه الأخيرة، وهي ابنة سياسي ألماني ساعد على التفاوض حول اتفاقية روما التي كانت بمثابة الأساس الذي قام عليه الاتحاد الأوروبي، تجيد التحدث باللغتين الفرنسية والإنجليزية، و«الاتحاد الأوثق من أي وقت مضى» موجود في دمها. كما أنها تدرك أن الحفاظ على تماسك الأسر والاتحادات يتعلق إلى حد كبير بالظروف والأجواء المحيطة. ففي ذلك اليوم الذي حاورتها فيه، وكان يوماً من أيام ديسمبر، قاطعتني واستأذنت ثم عادت وفي يدها ولاعة. فأشعلت شمعة على الشمعدان الذي على الطاولة بيننا. وقالت «حسناً»، ثم تنفست وابتسمت وخاضت في السياسة.


*كاتب وصحفي متخصص في الشؤون الأوروبية مقيم في برلين
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»