عقدت الجامعة العربية اجتماعاً بالقاهرة على مستوى المندوبين، لبحث المشكلة الليبية. وما حدث هذا الانعقاد إلاّ تحت وطأة التهديد التركي بالتدخل في البحر والجو والبر! وبالطبع فإنّ الاجتماع لن يستطيع منع الأتراك من التدخل، لكنْ كان من المفيد التأكيد على الثوابت: «اتفاق الصخيرات»، ورفض التدخلات الخارجية، والعودة للمفاوضات السياسية. والمفروض أن يتابع الأمين العام للجامعة العربية إنفاذ هذه المقررات. لماذا لا تؤثر الجامعة في استعادة السلم إلى ليبيا؟ بسبب الضعف والانقسام العربي نعم.
روسيا الاتحادية والولايات المتحدة ذاقتا الأمرَّين من الميليشيات المسلحة باسم الإسلام، ومن ممارستها القتل والاستيلاء باسم الإسلام أيضاً! فالمانع من استقبال الجديد السياسي والسلمي في ليبيا هو الميليشيات المسلحة المتربعة في طرابلس، والتي توشك أن تتحول إلى بؤرةٍ للإرهاب. الحل السياسي فات أوانه في ليبيا منذ عام 2015، والميليشيات المسلحة لا يُخرجها من المدن ومن التسلط غير الجيوش الوطنية. وهذا هو ما يحاول الجنرال حفتر فعله من دون أن يحظى بالاعتراف والدعم، رغم كراهية الجميع- بما في ذلك خصومٌ من خصوم حفتر- للميليشيات وسلوكاتها. إنّ الجديد في بلادٍ شاسعةٍ مثل ليبيا هو الجيش الوطني الذي يريد استئصال الميليشيات بغضّ النظر عن الطريقة المرَّة وغير المقبولة من الدوليين.
والمحنة في سوريا أشدّ لكثرة الأطراف المشاركة في الاضطراب. أما الميليشيات فصارت كلها في خدمة القوى المتدخلة الإقليمية والكبرى. فالميليشيات في سوريا علةٌ بارزةٌ، لكنّ حاكم سوريا والروس والأميركيين والأتراك والإيرانيين متدخلون أيضاً. وكانت الجامعة العربية قد تركت سوريا من سنوات لتلك القوى جميعاً، ثم استفاقت فاجتمعت عندما تفاقم التدخل التركي. ولذا لا يمكن في سوريا الحديث عن حوائل وعقبات وحسب، لأنّ الموقف كله مسدود، والمأساة الإنسانية بالقتل والتهجير مستمرة إلى ما لا نهاية! وبالطبع فهذا ليس رأي الجميع. فهناك إضافةً للروس والإيرانيين والصينيين من يرى أنه لا حلَّ لحفظ وحدة سوريا وبقاء الدولة فيها إلاّ بقاء الأسد ونظامه. ولا اعتراض حقيقياً للأميركيين على ذلك. وحتى الأوروبيين وقد أبهظت كواهلهم الهجرة السورية، وأزعجتهم ابتزازات أردوغان، بدأوا يميلون(وبمساعدة الروس) للانفتاح على النظام السوري، والحديث عن المؤازرة في إعادة الإعمار في مقابل سماح النظام بعودة اللاجئين.
والملفان الثالث والرابع، واللذان تواجه الجديد فيهما حوائل وعقبات هما العراق ولبنان. والحوائل والعقبات نوعان: سيطرة الميليشيات المسلحة منذ زمن على الشؤون الكبرى فيهما من الأمن وإلى السياسة. ونجاح تلك الميليشيات في زيادة شرعيتها بالنجاح في الانتخابات قبل أقل من سنتين. والنوع الآخر الذي يسبب استعصاءً هو الصراع الناشب بين الولايات المتحدة (وإسرائيل) من جهة، وإيران من جهةٍ ثانية. وفي لبنان كان هناك التضييق والحصار المالي على الحزب من جانب الولايات المتحدة. وبدا الحزب حريصاً على عدم إحداث توتر أمني من لبنان، رغم تهديد جنرال إيراني بذلك.
بيد أنّ الضربات المتبادلة بدأت وتطورت بالعراق، بعد زمنٍ طويلٍ من التركيز على البحر والبر الخليجي. فمنذ شهور يشكو الأميركيون من ضربات خفيفة لكنها متوالية على سفارتهم وعلى قواعدهم. وهم ردُّوا للمرة الأولى بعد الهجوم على قاعدتهم مع الجيش العراقي بكركوك. وكان رداً هائلاً، تلاه في اليوم التالي هجوم المتظاهرين على السفارة الأميركية ببغداد، لتعود القيادة الأميركية إلى الضرب في قسم الشحن بمطار بغداد، استهدافاً لأسلحةٍ أو لأشخاص. فهل يستمر هذا التطور التفجيري؟ وهل يمتد إلى لبنان بمبادرة من إسرائيل أو من الحزب؟ وفي البلدين (العراق ولبنان) أزمات سياسية واقتصادية، ولذا فإنّ المرجَّح أن يزداد التأزم السياسي والاقتصادي، إضافةً إلى احتمال التفجير الأمني والعسكري. وهذه جميعاً عوامل في منع الجديد.
في المرحلة الثالثة من مراحل الاضطراب بالمشرق العربي تبدو الميليشيات المسلحة عائقاً رئيساً في وجه عودة الدولة والاستقرار في حياة المواطنين، وتظل هي المنفذ للتدخل الخارجي: ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يُهدَّم!
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية