مع تزايد مؤشرات تورط تركيا بالتدخل المباشر في ليبيا، تحركت الجامعة العربية لإبراز الاحتجاج والرفض العربيين لمغامرة أنقرة غير محسوبة العواقب، بعد أن باشرت بالفعل تجاوز التصريحات وإطلاق بالونات الاختبار، إلى شرعنة تدخلها العسكري، من خلال مصادقة البرلمان التركي، الخميس الماضي، على مشروع قرار بهذا الشأن، ولم تكن أنقرة تريد لبعض بالونات الاختبار التي أطلقتها أن تنكشف، لأنها أضفت على تدخلها في الشأن الليبي طابعاً إرهابياً، من خلال تسريب أنباء عن عناصر إرهابية دفعت بها إلى الساحة الليبية! وتلك فضيحة تكشف أن الجانب التركي يخطط لاستخدام عناصر غير نظامية ومتطرفة في التدخل المزمع.
وفي إطار الرفض العربي للتحركات المشبوهة، التي تضر بمستقبل استقرار ليبيا، شاركت الإمارات في الاجتماع الطارئ على مستوى المندوبين الدائمين، الذي أعاد الحياة إلى أروقة الجامعة العربية الأسبوع الماضي، وأكد على وحدة وسيادة ليبيا، ورفض التدخل الخارجي أياً كان نوعه.
وتبدو الحاجة إلى وحدة الموقف العربي في ظل هذه الظروف أكثر إلحاحاً، وبخاصة أن الاختراقات التي طالت الأمن القومي لدول المنطقة تزايدت، في ظل توجهات ومؤامرات مكشوفة، تتعمد التلاعب باستقرار عدد من البلدان، بهدف تمرير مشروعات مشبوهة، بالتحالف مع مجموعات راديكالية، لا تزال تستهلك شعارات ضد الولاء الوطني، وتفكر بمنطق الخلافة العثمانية.
لا ننسى كذلك أن التحركات الخارجية المستهدفة لأمن واستقرار عدد من الدول العربية، تخللتها (قمة الضرار)، التي كان من نتائجها مغازلة الرغبات الدفينة والعقل الباطن، لدى رعاة أيديولوجيا الإسلام السياسي، وانفتاح الشهية لديهم بإمكانية تجاوز الدول العربية القيادية في العالم الإسلامي.
وفي حين يتطلب الوضع الليبي الدفع باتجاه إنهاء حالة اللادولة ودعم الجيش النظامي، يصر الجانب التركي على استمرار تقييم التدخل في المشهد الليبي من منظور المصلحة الضيقة والأشد أنانية، بعد توقيع أنقرة اتفاقاً لا يستند إلى شرعية قانونية، بدليل أنها تستعد للقيام بتحرك عسكري خاطئ لحماية الحلفاء، الذين وقّعوا معها ذلك الاتفاق غير الشرعي.

كان على الجانب التركي التريث إلى حين استتباب الوضع في ليبيا، بدلاً من التوقيع على اتفاق مع حكومة ميليشيات غير مقبولة من أغلبية الليبيين، لكن أنقرة وجدت في ميليشيات طرابلس حليفاً مطيعاً وموالياً لها على أسس أيديولوجية! ومن هنا تندفع لدعم من يمثلون الفوضى التي تستغلها في طرابلس.
ليس من الحكمة صب الزيت على النار، هذا ما تقوله التجارب المتكررة في الدول التي تشهد اضطرابات، تؤجل استقرارها وتمنع بناء سلطات انتقالية نظامية تنهي الفوضى فيها، وفي المشهد الليبي يصر الجانب التركي على التورط في تدخل مرفوض عربياً ودولياً، من خلال دعم كتائب لا تمثل الدولة الليبية، إلى جانب انتقال المغامرة التركية إلى محاولة توريط جيران ليبيا، سعياً لتحويل بلد آخر إلى قاعدة موالية تقدم الإسناد السياسي لتبرير التدخل المرفوض.
يأتي ذلك، بينما الساحة التونسية في حالة ترقب ولادة حكومة جديدة، لم تظهر معالمها وتوجهاتها، في ظل حاجة المنطقة إلى رشد سياسي أعمق، يتجاوز الشعارات والمنطق العاطفي، ويركز على مصالح الشعوب وأمنها واستقرارها.

في الأثناء، انتشرت تغريدات توحي بميول لدى بعض جيران ليبيا بالخضوع للرغبات التركية، وسواء كانت التغريدات تجس النبض رغم تناقضها مع بيانات رسمية اختارت الحياد، إلا أن ظلالاً كثيفة توحي بتوجه خطاب متطرف لدى جيران ليبيا نحو رسم التحالفات الخارجية، وجعلها تتسق مع أيديولوجيا ذات نزعة لا تفضل الحياد، بقدر ما تؤيد الانحياز مع التطفل التركي في المنطقة.

الدرس الذي تأخر الكثيرون في استيعابه، أن مرحلة ما بعد الفوضى التي جلبت انهيار بعض الأنظمة، أتاحت لقوى خارجية مثل تركيا تجربة التدخل واختراق الأمن القومي العربي، وما يجري في ليبيا لا يخرج عن نطاق استثمار جذور الفوضى، الأمر الذي يستدعي مساعدة البلدان العربية النازفة لملمة جراحها، وحماية وحدتها، وقطع الطريق أمام وكلاء تركيا وغيرها من القوى الإقليمية الطامعة، من خلال استعادة الاستقرار ودعم القوات النظامية.
إن المدخل الأساسي لاستمرار الفوضى واحتمالات التطفل الخارجي، ينشأ من استمرار تحرك المليشيات المتطرفة ذات المرجعية التي تدين بالولاء لما وراء حدود بلدانها، وهذا حال ميليشيات وكتائب العاصمة الليبية طرابلس، التي تهلل لرغبة أنقرة بالتدخل، والأخطر من ذلك أن الطرف التركي يطمع في توسيع نفوذه، ليشمل ما يتجاوز ليبيا إلى جيرانها.
*كاتب إماراتي