يتزايد قلق الأميركيين بشأن كلفة الخدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم. لكن هذه هي الصناعات نفسها التي تحافظ على استمرار الطبقة المتوسطة. وحسم هذه الأحجية محوري في بناء اقتصاد المستقبل. وليس هناك ما يثير الدهشة في أن أسعار معظم السلع المادية انخفض لكن كلفة الخدمات الكبيرة أصبحت أعلى بكثير. ومع ابتلاع الرعاية الصحية نصيباً يتزايد دوماً من الدخل القومي، يريد كثيرون أن تتولى الحكومة الأمر. والارتفاع الشديد في الرسوم الدراسية أدى إلى دعوات إلى تعليم جامعي مجاناً. ورعاية الأطفال تواجه دعوات مماثلة. وهذه الخدمات تمثل جانباً كبيراً مما يستهلكه الناس في حياتهم.
وقد يظن البعض أن هذه الكلفة المرتفعة تملأ خزائن أكثر أفراد البلاد ثراء. لكن قراءة سريعة لقائمة فوربس 400 تكشف أن معظم فاحشي الثراء قد حققوا ثرواتهم إما في مجال التكنولوجيا أو مجال التمويل. وأبرز ملياردير في الرعاية الصحية هو توماس فيرست الابن يحتل المرتبة 41 في القائمة وهو مساهم في تأسيس شركة مستشفى هادفة للربح وهي «أتش. سي. أيه. هيلثكير». لكنه يمثل استثناء، فهناك طائفة أخرى حصدت أموالها من الأجهزة أو المعدات الطبية أو العقاقير. وهناك عدد أقل من الناس حققوا ثروات طائلة من بيع خدمات التعليم. وهذا يوحي بأن الأرباح لا تمثل إلا نسبه قليلة من الكلفة التي يدفعها الأميركيون للرعاية الصحية والتعليم ورعاية الأطفال. فهناك 20% فقط من المستشفيات هادفة للربح وأقل من 10% من طلاب المدارس يتلقون العلم في جامعات هادفة للربح.
ومعظم ما يدفع الأميركيون مقابلاً له هو رواتب الأشخاص الذين يعملون في هذه الخدمات. وعدد هؤلاء الموظفين يتنامى، فقد كانت نسبة العاملين في الرعاية الصحية والتعليم أقل من 5% من قوة العمل في خمسينيات القرن الماضي مقابل 16% اليوم. ومثلت الوظائف المتعلقة بالرعاية الصحية -مثل المتخصصين في الرعاية الصحية المنزلية والعلاج التأهيلي وغيرها- القسط الأكبر من 20 مهنة هي الأكثر سرعة في النمو في الولايات المتحدة عام 2018. ومعظم الوظائف الأخرى تتعلق بالبارعين في البرمجة والرياضيات والإحصاء وهي الوظائف التي لا يرجح أن تمثل خيارات للسواد الأعظم من الطبقة الوسطى الأميركية. وتزايد وظائف الرعاية ربما يكون ناتجاً عن عدم تحقق توقعات انتشار الأوتوماتيكية في هذا المجال. ومع تزايد إنتاجية الزراعة والتصنيع مع تقليص عدد العمال، انتقل الأميركيون إلى قطاع الخدمات.
وحاليا يتوقع كثيرون من المتخصصين في التكنولوجيا أن يؤدي التقدم في الذكاء الصناعي إلى انتشار الطابع الآلي في طائفة من وظائف الخدمات كما في خدمات الغذاء والبيع بالتجزئة وغيرها. وقد تصبح الرعاية الصحية والتعليم -وهما من الأمور التي لا يشعر البشر بالراحة فيها إلا إذا قدمها بشر آخرون- الملاذ الأخير للأيدي العاملة من الطبقة الوسطى الذين تبعد عن متناولهم الوظائف المميزة في البرمجة أو علوم البيانات. وهذا سيصح بشكل خاص إذا منعت اللوائح مجالي الصحة والتعليم من نشر الطابع الآلي فيها مثلاً من خلال تحديد نسبة معينة من العمال في مراكز رعاية الأطفال. وربما تكون الإنشاءات من الملاذات المهنية الأخرى.

وإذا أنفق الأميركيون من الطبقة الوسطى معظم وقتهم في الرعاية والتعليم فيما بينهم وبناء المنازل لبعضهم بعضاً وتعبيد الطرق، فإن حاجاتهم الأخرى مثل الطعام والنقل والسلع المادية سيتكفل بها الربوتات. وهذه الروبوتات سينتجها ويتحكم فيها عدد كبير من العمال رفيعي المهارة ويمتلكها عدد أصغر من المستثمرين والممولين. وهذا يبدو كما لو أنه وصفة لعدم مساواة هائلة. وهنا يأتي دور الضرائب. وهذا يعني إجبار المستثمرين والممولين والمهندسين أصحاب الرواتب المرتفعة أن يسلموا بعض الحصيلة المادية الهائلة التي أنتجتها ربوتاتهم إلى جموع الطبقة الوسطى الذين يتزايد الاعتماد عليهم في العمل المتعلق بالرعاية الصحية.
وهناك من يجادل بأن الاقتصاد الأميركي تحرك بالفعل في هذا الاتجاه على مدار أعوام بينما تحول فيه العمال إلى الخدمات وتصاعدت عدم المساواة. لكن هناك حدوداً لهذه العملية. فإذا وجد الأثرياء في نهاية المطاف وسيلة لتفادي عبء الضرائب الأعلى، فإن النظام قد يصبح غير قادر على الاستمرار.
وإذا أصبحت وظائف الرعاية والإنشاءات عرضة لمزيد من الآلية في المستقبل، فقد تتحقق أخيراً البطالة التي سببها التكنولوجيا والتي يخشاها الناس منذ فترة طويلة. وللتحوط ضد الانهيار، يجب على الحكومة أن تقوم بأمرين. أولا: يجب أن تبحث عن وسائل لتجعل الطبقة الوسطى أكثر إنتاجية وحتى إذا لم يستطع كل شخص أن يكون مبرمجاً أو عالم بيانات، فإن برنامجاً مثل نظام التدريب الحرفي والتعليم المهني في ألمانيا قد يكون قادراً على إيجاد وظائف منتجة لعدد كبير من العمال خارج الصناعات القائمة على الرعاية. وثانياً: تجريب برامج الرفاهية الاجتماعية مثل الدخل الأساسي للجميع الذي تموله صناديق ثروة اجتماعية قد تعد البلاد لاحتمال أن يصبح العمل ذات يوم أمراً قد عفا عليه الزمن.

*أستاذ التمويل المساعد السابق في جامعة ستوني بروك.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنط بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»