تقوم فكرة الذكاء الاصطناعي على تحويل الوعي بالذات الإنسانية وفهمها إلى تكنولوجيا، لكن ذلك ينشئ متوالية من التفاعلات التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية، فالآلة الذكية (الحاسوب والروبوت والطابعة الثلاثية الأبعاد..) بما هي محاكاة للإنسان في التفكير والتحليل، وربما لاحقاً الإدراك والتداعيات، تغير وعي الإنسان لذاته، ومن ثم وبطبيعة الحال، فإن الآلة نفسها سوف تتغير أو تنشأ أجيال جديدة منها تحاكي هذه التغيرات. وهكذا فإن الإنسان يغير في نفسه وفي وعيه وإدراكه كلّما تقدم في الذكاء الاصطناعي، على نحو لا نعود معه قادرين على التمييز (ربما) هل الآلة تغير في وعي الإنسان وإدراكه للمعنى والجدوى، أم أن الإنسان يستنسخ نفسه على نحو متطور ومتغير في آلات ذكية واعية؟ لكن من المؤكد أن الإنسان في مغامرته هذه يغيّر في ذاته على نحو سريع وعميق، والحال أن الإنسان يتطور ويتغير كثيراً، لكنه في هذه المرة قد يمضي بوعيه وقيمه إلى مرحلة جديدة مختلفة، إلى درجة أن المرحلة الحاضرة سوف تكون «الإنسان السابق»، ورغم ما في ذلك من صدمة عميقة لا نكاد نحتملها، فإنه يجب أن نتذكر أن الإنسان تغيّر كثيراً في وعيه وتقييمه للأفكار والمسائل، وعلى سبيل المثال فقد كان الرق متقبلاً لدى الفلاسفة والعلماء على مدى القرون، ولم يراجع الإنسان نفسه ويغيّر من موقفه من الرق حتى القرن الثامن عشر. وينبغي أن نذكّر أنفسنا أن إلغاء الرق تحول إلى فكرة إنسانية راسخة وعميقة بفضل المكائن والآلات الزراعية! وكذا قيم السلام وحقوق الإنسان والمساواة والتنوع والبيئة.. فإنها لم تكن بهذا الحضور والتأثير قبل مئة سنة، وكان تمجيد الحرب وقتل الأعداء فضيلة وبطولة، وصار الإنسان اليوم يتبرأ منها! ويمكن أن نتذكر في قيم الحياة اليومية والتنشئة والعمل كيف تحولت عادات وممارسات مثل ضرب الأطفال إلى جريمة بعدما كانت سائدة ومتقبلة. إننا نلاحظ اليوم كيف تكرست هذه القيم، لكننا لا نلاحظ إلا قليلاً علاقتها بالتطور التكنولوجي وما تبعه من تحولات اجتماعية وسياسية وثقافية.
تقوم برامج الذكاء الاصطناعي على مجموعة من الخصائص والسمات، مثل التمثيل الرمزي، والتعبير عن التصورات العليا والمعقّدة برموز تجعل محاكاة اتخاذ القرار والتفكير ممكنة حاسوبياً، ما يجعل الحاسوب قادراً على عمليات أكثر تعقيداً، مثل التشخيص الطبي. وقدرة البرنامج على الاختيار والترجيح (الاجتهاد) بين القرارات والبدائل، وهكذا يستطيع الحاسب بما يمتلكه من سرعة هائلة أن يجرّب عدداً كبيراً جداً من الاحتمالات والطرق ويغير ويبدل في عمليات المعالجة والتحليل، ليتوصل إلى نتيجة نهائية، ويمكن بذلك الدخول في مراحل وعمليات جديدة غير خاضعة لمناهج وقواعد منضبطة، وهكذا يصعد علم الإحصاء والاحتمالات. لكن أيضاً أمكن للإنسان أن ينشئ آلة أكثر قدرة منه على حل المسائل العلمية المعقدة، وقد كان الإنسان يظن أنه يتميز بعقله وتفكيره، بعدما نجا من صدمة صناعة آلات وأجهزة تتفوق عليه في قدراته وإمكانياته الجسدية، لكنه اليوم يواجه صدمة عميقة، تجعله يرتد إلى غرائز البقاء والخوف أكثر من مواهب البحث والتأمل، وهذا ما دفع الساسة البريطانيين إلى تدمير «آلة تورينع» رغم أنها وجهت المعركة لصالحهم وساعدتهم بشكل حاسم على الانتصار على ألمانيا، لكنهم لم يقدروا على استيعاب وجود آلة تفكر. إنها الصدمة نفسها التي واجه بها قادة المجتمعات والدول المطبعة وآلات النسيج..
ويمكن لبرامج الذكاء الاصطناعي التوصل إلى حلول للمسائل حتى في حالة عدم توفر جميع البيانات اللازمة لاتخاذ القرار، وهي بالطبع عمليات معرضة للخطأ وليست قائمة على اليقين كما يحدث مع الإنسان في العمل والحياة اليومية، لكنها أكثر كفاءة من الإنسان وتحسِّن كفاءتها باستمرار لتقترب من الصواب أو تتطابق معه. وهكذا لم يعد اليقين أساساً لفهم المسائل والحياة والعمل والعلم والفلسفة والاعتقاد، فالإنسان ينشئ من اللايقين منظومةً من التقدم التكنولوجي والفكري والفلسفي والمعرفة والحكمة. ويمكن أيضاً لبرامج الذكاء الاصطناعي التعامل مع بيانات متناقضة مع بعضها، وهو ما يفعله الإنسان بالطبع، لكن البرامج الحاسوبية التقليدية تجعل من إمكانية بناء خطوة أكثر تطوراً وتعقيداً أمراً ممكناً، حيث يمكن بسرعة معالجة وتجريب وبناء مصفوفات عملاقة للمعلومات والبيانات. كما يمكن للحاسوب أو البرنامج أن يعلم نفسه ويطور ويغير قدراته، ويغذي برنامجه بكل المعلومات والمدخلات التي يمكن الحصول عليها وجمعها، وهكذا يكون قادراً على الإحاطة والتغيير والاستيعاب، كما يحدث على سبيل المثال في متابعة حالة الطقس وحركة المرور والملاحة الجوية والبحرية.. وهنا تصعد علوم النفس والمنطق، لأن محاكاة الآلة للإنسان في هذه المرحلة هي الأداء المعرفي من دون إحاطة تامة بها.
إن التقدم والازدهار اليوم يقوم على وعي جمعي وشامل بمتطلبات تكنولوجيا المعنى والمعرفة، وملاحظة الفرص والتحديات والتقاطها في اللحظة المناسبة قبل فوات الأوان.

*كاتب وباحث أردني