تبدأ موسكو، الأربعاء المقبل، تنفيذ موازنة روسيا بفائض 13.6 مليار دولار، وعلى رغم تراجع نسبته إلى 0.8% من الناتج المحلي الإجمالي، المقدر بنحو 1.57 تريليون دولار، فقد ترك هذا الفائض ارتياحاً لدى الرئيس فلاديمير بوتين، الذي تفاءل بفترة التخطيط لتطوير الإيرادات الفيدرالية من 317.7 مليار دولار عام 2020، إلى 331.12 مليار2021، ثم إلى 343.9 مليار دولار عام 2022، مع العلم أن الموازنة الروسية سجلت فائضاً بنسبة 2.7% من الناتج عام 2018، للمرة الأولى منذ عام 2011، ثم تراجعت إلى 1.7% العام الماضي، ومن الطبيعي أن ارتفاع أسعار النفط ساهم بتكوين هذا الفائض، خصوصاً أن موسكو قدّرت سعر نفط الأورال بنحو 42.4 دولار للبرميل، وما يزيد يتم تحويله إلى صندوق الثروة السيادي.
هذه التطورات، تحدث بوقت يشهد فيه المجتمع الروسي خللاً في توزيع الثروة، حيث استفاد الأثرياء من عائدات كبيرة لاستثمارات وخدمات متنوعة، وقام بعضهم بتهريب أمواله إلى الخارج، وإيداعها في البنوك الغربية، وخاصة السويسرية منها، في حين يزداد عدد الفقراء، الذي وصل إلى نحو 18.6 مليون مواطن، بما يعادل 12.7% من السكان، ويسدد هؤلاء ضريبة الدخل بنسبة 13% من أجورهم الشهرية.
وإذا كان الرئيس بوتين وعد بدراسة فكرة إعفاء المواطنين ذوي الدخل المحدود من الضريبة، فإن رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف وصف هذه الخطوة بأنها «حساسة ومعقدة»، وعبّر عن مخاوفه من رد فعل فئات أخرى من المواطنين عليها، بينما دعا وزير المالية أنطون سيلوانوف إلى التريث، ودراسة الاقتراح وتقييم إيجابياته وسلبياته، وتأثيره على موازنات الأقاليم الروسية، وقال موضحاً: «إن فائض الموازنة، وجباية الضرائب، ونمو مدخرات صندوق الرفاه، لا تعني أن الحكومة لديها سيولة، ولا تريد الإنفاق»، ووصف هذا الوضع بأنه «ظرف مؤقت»، وحذر من أن كل شيء تغير، وأضاف متسائلاً: «هل نقرر تخفيف العبء الضريبي، ومن ثم نتراجع ونعود لفرض الضرائب مجدداً؟».
لقد اقتصر مفهوم التنمية، بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى نهاية الثمانينات، على الكمية التي يحصل عليها الفرد من سلع وخدمات مالية، وكان الاهتمام منصباً فقط على النظرة الاقتصادية، من خلال التركيز على النمو الاقتصادي، كمعيار حقيقي للتقدم والتنمية، ولكن في عام 1990، تبنى البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة مفهوماً للتنمية البشرية، حدد بموجبه الإنسان بأنه «صانع التنمية وهدفها»، انطلاقاً من أن البشر هم الثروة الحقيقية للأمم، وأن قدرات أي أمة تكمن في ما تمتلكه من طاقات بشرية مؤهلة ومدربة، وقادرة على التكيف والتعامل مع أي جديد، وتطبيقاً لهذا المفهوم، تُبرز خسائر الاقتصاد الروسي باستمرار، انخفاض عدد السكان للعام الثالث على التوالي، إذ سجّل عام 2019 أعلى معدل انخفاض منذ 11 عاماً، بلغ أكثر من 326 ألف نسمة، وعلى رغم أن الهجرة الوافدة إلى روسيا عوضت جزءاً يسيراً من هذا الانخفاض، لكنها غير كافية، وقد وعد الرئيس بوتين بالعمل على تحسين الظروف لضمان نمو معدل الولادات، خصوصاً أن ضمان نمو مستقر لأعداد السكان، يشكل واحداً من جملة أهداف رئيسية، يسعى إلى إنجازها حتى عام 2024.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية.