نحن جيل وعيّنا في فترة الستينيات، ودخلنا أول سُلم التعليم بالمرحلة الابتدائية عام 1964، وتخرجنا من مرحلة الـ«كيه جي 1 و2» في الكتاتيب أو عند «المطوع والمطوعة». فكان غذاؤنا القومي في طابور الصباح في أنشودته الرائعة من فم قطب الفن العربي الأصيل محمد عبدالوهاب، وهو يصدح بصوته الكرواني بقصيدة الشاعر علي محمود طه، والتي يقول مطلعها: أخي جاوز الظالمون المدى.. فحُق الجهاد وحق الفدى.
وكانت القصيدة انعكاساً وشرحاً وافياً لحال الأمة بعد هزيمة 67 التي لم تزل آثارها بينة على مجمل الأوضاع في العالم العربي. والتغذية القومية الأخرى كانت غبر الزيارات المتتالية للفدائيين الفلسطينيين للمدارس بأزيائهم العسكرية وشرحهم للبطولات التي حققوها أثناء مواجهاتهم للعدو الصهيوني الغاشم بعد احتلال فلسطين.
لقد تربى الشعور فينا في ذلك الزمن الجميل، بأن الوطن العربي كله وطن لنا وخاصة بعد ترديدنا في الصباح الباكر ما يؤصل لدينا من الأشعار التي تحرك في العربي قوميته العروبية، فمن ذلك قصيدة الشاعر فخري البارودي التي يقول فيها:
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغداني
فمن نجد إلى يمن
إلى مصر فتطوان
وعلى مشارف السبعينيات، وقبل الدخول إلى الصفوف كنا نردد في الطابور بصوت واحد رغم تعدد الأفواه: «وطننا من المحيط إلى الخليج.. أملنا أمة عربية واحدة». هذا الحلم الطفولي رافقنا إلى أن صحوا في الصباح الباكر من يوم الثاني من أغسطس، ومن دون أي طابور ولا إذن ولا دستور، فإذا بجيش صدام الجرار يغزو الكويت، ليضيف إلى حلم الطفولة آلام البلوغ وإرهاصات النضوج المبكر.
تحررت الكويت بعد حرب الخليج الثانية، وفي عام 2003 احتلت أميركا العراق وجعلت عليه برايمر» حاكماً إلى أن سلمته بارداً مبرداً إلى إيران.
وما بين السطور اشتعلت الحرب الأهلية اللبنانية، وتقاتلت الكتائب والأحزاب لخمسة عشر عاماً متتالية حتى حانت ساعة «اتفاقية الطائف»، وساد هدوء حذر في بيروت، إلا أن الجنوب لم يسلم من الغزو الإسرائيلي المدمر في معركة طاحنة لم يستطع في حينها بطرس بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة أخذ حق لبنان الجريح للمرة الثانية من المعتدي.
ألا تلاحظون أن الصوت الجهوري لأناشيد الصباح بدأ يخبو وسط هذه الأزمات المتواصلة، ولم تهدأ الأوضاع حتى اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987- 1993، لم يجد الفلسطينيون غير الحجارة سلاحاً فتاكاً، وبعدها بسنوات قليلة عادت انتفاضة أخرى إلى الوجود لكي تستمر من عام 2000- 2005، ولم تمر سنتان حتى دبت الاشتباكات المسلحة بين «حماس» والسلطة الفلسطينية، والتي كان من حصادها انقسام فلسطين إلى فلسطينيْن.
في ذات الفترة لم تكن فلسطين هي النكبة الوحيدة، بل شاركها السودان الذي انشق لسودانين، شمال وجنوب بعد حروب أكلت من زهرة السودان قرابة ثلاثة عقود، أحرق فيها مبلغاً لا يقل عن أحد عشر مليار دولار من غير البشر والحجر.
ومع حلول ظلام «الربيع العربي» الدامس تلاشت الأنشودة، وحل السراب مكانها بعد سقوط بعض الأنظمة العربية في طريق الفوضى «الخلاقة» التي طردت الأمن والأمان والاستقرار من ديارها، بل من صلب النسيج الاجتماعي لمجتمعاتها.