ربما يستغرب كثيرون، إذا علموا أن وفداً من تسعة علماء شريعة سعوديين توجهوا في 24 أكتوبر 1974 إلى الفاتيكان، يرأسهم وزير العدل السعودي، آنذاك الشيخ محمد بن علي الحركان (1914-1982)، وبينهم الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير(1929-2001)، فالتقوا بابا الفاتيكان، البابا بولس السادس (1897-1978)، الذي اشتهر باسم «بابا الإصلاح»، و«بابا الحوار»، وتباحثوا مع كرادلة الكنيسة الكاثوليكية، ضمن ما بات يعرف بعد ذلك بالحوار الإسلامي-المسيحي، أو حوار الحضارات.
وكان هذا الحوار بُني إثر زيارة وفد غربي للسعودية، قبل زيارة الفاتيكان بعام، وجلوس الوفد إلى بعض علماء السعودية، واستغرابهم من رؤى الانفتاح والتسامح الإسلامية، التي خرجوا بها من الحوار، فاقترحوا بإصرار أن يزور جمع من العلماء الفاتيكان، لردم سوء الفهم، والبناء على المشترك، في سبيل التعايش. الحوار الذي كان بدأ في السبعينات، كان ودوداً وحميماً، ونقلت كلمات بابا الفاتيكان الترحيبية بالعلماء المسلمين، الذين جاؤوا من السعودية، حيث الحرمين الشريفين، وقبلة مليار مسلم يعيشون في شتى أنحاء المعمورة.
وفد علماء السعودية، ضم، بالإضافة للشيخين الحركان والجبير، الشيخ عبدالعزيز المسند، والشيخ راشد بن خنين، والشيخ محمد المبارك، والدكتور محمد عبده يماني، والدكتور معروف الدواليبي (رئيس وزراء سوريا الأسبق، الذي انتقل للسعودية وعاش بها حتى وفاته رحمهم الله جميعا).
وكان الكاردينال بينادولي أمين سر الفاتيكان لشؤون غير المسيحيين، زار في أبريل عام 1974 السعودية، والتقى العاهل السعودي الملك فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، وسلمه رسالة من البابا بولس السادس، تعبر عن رغبة الفاتيكان في استقبال مجموعة من العلماء المسلمين.
وكان البابا بولس السادس، أقر ضمن سياساته الدينية الإصلاحية، موقفاً مسيحياً إيجابياً تجاه الإسلام، عبر عن احترام الكنيسة الكاثوليكية للمسلمين ولدينهم، وقدم اعتذاراً عن الحروب الصليبية، ما مهد لأرضية حوار حميمي، وشجع الملك فيصل ليرسل وفد العلماء، الذين تحدثوا في ندوة عن حقوق الإنسان الثقافية في الإسلام، قبل أن ينتقل وفد العلماء المسلمين السعوديين لزيارة فرنسا وسويسرا.
جريدة الفاتيكان الرسمية (ابوزورفاتو رومانو)، منحت الزيارة اهتماماً خاصاً، ونشرت تغطية لها، في مكان بارز في الصفحة الأولى بتاريخ 26/10/1974.
السفير السعودي في إيطاليا، أحمد عبدالجبار، كان في استقبال العلماء في المطار، وإلى جانبه، شخصيات حكومية إيطالية، ونيافة الكاردينال بينادولي، الذي نقل رسالة البابا للفيصل، وكان من المتحمسين داخل الفاتيكان للانفتاح على الأديان الأخرى، بما فيها الإسلام، ولأنه قابل المشايخ في السعودية قبل أشهر، وتعرف عليهم، كان استقباله لهم مختلفاً، فقد عانق ممثل البابا وفد العلماء واحداً واحداً، والابتسامات الصادقة تعلو وجوه الأطراف كافة، حتى لفت المشهد، مندوبة مجلة (إكسبرس) الفرنسية، حيث كتبت:«رأيت منظراً لا يصدق، فقد كان يقف على أرض المطار الكاردينال بينيادولي، الرجل الذي يحتمل أن يخلف قداسة البابا في منصبه، رأيته يعانق الشيوخ العرب الذين هبطوا من الطائرة وكان يلوح على وجوههم السرور العارم». (انظر: حوار الحضارات بين المملكة العربية السعودية والفاتيكان، مطيع أحمد على النونو، «في إطار الحوار الإسلامي المسيحي»، (1972 – 1974م)، ط1 (2004 م)، ص 342.
جدير بالذكر، أن الكاردينال بينادولي، هو أحد صُنّاع وثيقة المجمع المسكوني الثاني، التي أشادت بالشريعة الإسلامية، في موقف اعتبر تغيراً إيجابياً من الفاتيكان تجاه الإسلام.
أول جلسة لوفد علماء المسلمين السعوديين مع رجال الفاتيكان عقدت الجمعة 25 أكتوبر 1974، وكان موضوعها «الثقافة وسيلة لتكافل الإنسان ومساهمة المسلمين والمسيحيين في توطيد السلام واحترام حقوق الإنسان»، وبدأت بكلمة للكاردينال بينيادولي، الذي أفاض في عبارات الترحيب بوفد علماء المسلمين من السعودية، تلاه الحبر روسانو، وكان عنوان كلمته: «الثقافة الدينية سبيل النمو الإنساني»، وقال:«لكي نعي معنى الثقافة الدينية ودورها في ترقية الإنسان، يتوجب علينا أولاً أن ندرك صورته الحقيقية الكاملة ومكوناته الجوهرية... إننا مقتنعون والأمر كذلك، أننا على اتفاق تام مع مبادئ الإسلام الأساسية، ما يولد فينا نحن المسيحيين، احتراماً خالصاً لكل الديانات، التي عمادها أن الإنسان يبحث عن الله. ولذا نطلب الحرية الدينية لكل الناس. تلك الحرية التي تتيح لهم أن يرفعوا أبصارهم نحو الله حسب معطيات ضمائرهم، ونرفض بعض مظاهر المدنية المعاصرة المادية والملحدة، ونعتبر الإلحاد ضررا بالغا للإنسانية».
الشيخ الحركان، قال:«كنا سعداء بالدعوة التي وجهها الفاتيكان إلى وفدنا لإقامة ندوات حول حقوق الإنسان في الإسلام والنصرانية، وأن نرى اليوم هذا الترحيب الكبير بوفد علماء المملكة العربية السعودية، وأن نرد على ترحيبهم بالمثل والشكر، آملين أن تكون هذه الندوة حدثاً تاريخياً في عالمنا الحديث الغارق في أوحال المادية، والذي أصبح في حاجة ماسّة إلى من يُسمعه صوت الحق، وينقذه من الضياع، ويشق له الطريق إلى السلام الآمن من غير خوف، ضمن أسرة إنسانية واحدة، جعلهم الله سبحانه وتعالى شعوبًا وقبائل ليتعارفوا ويتعاونوا على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، كما دعا إليه صريح القرآن، حين نادى بالبشر قائلاً:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ َ). وقال تعالى:(وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، لأن التعاون على الإثم والعدوان يمحو كل كرامة الإنسان».
أيها القارئ الكريم، يجب أن نستحضر أن الحوار السابق، الذي يفيض تسامحاً، ويعبق بالتعايش، بين علماء شريعة سعوديين، ينتمون للمدرسة الدينية العريقة، وكرادلة الفاتيكان، جرى قبل نحو خمسة عقود، وليس خمسة أشهر...
ولك أن تتعجب، ما الذي حلّ بنا بعد ذلك، لنتقهقر، ونكتشف أن الذين باتوا يمثلون ديننا أمام الدنيا، هم «القاعديون»، و«الداعشيون»، وناشرو ثقافة النحر، وجز الأعناق، وقع الرؤوس!