تتسارع وتيرة التطور في كل مناحي الحياة على مدار الدقيقة، وحتماً إن المتغيرات الحادثة تسابق الزمن نفسه في مقدمة لما هو قادم من قفزات سيحرزها الإنسان في المستقبل القريب، ومن أهم التحديات التي ستواجه البشرية هي الطريقة التي نستخدم بها أساليب ومناهج التعليم، ناهيك عن مضامين المواد التعليمية، التي تعاني من ترهل معرفي ولا تتماشى مع قوانين التغيير والحركة، التي تؤثر في مسيرة كل من هو موجود، وبأن العالم مقدم على عصر الدونية التكنولوجية والرقمية بين الدول.
ومن أجل أسلوب حياة ذات ميزة تنافسية، والأمن الاستراتيجي لأمتنا العربية، يجب أن يعكس أساس نظام التعليم في المستقبل ليصبح نظامًا يركز بشكل استباقي على الذكاء الاصطناعي والطاقة المستدامة والحوسبة الفائقة وتحليلات البيانات الضخمة والبيانات المعرفية المفتوحة المتاحة للجميع والبحث العلمي غير التقليدي والاختراعات، والتفوق في هذه المساحات هو بوابة الدخول للقرن القادم مروراً بنظام تعليمي يتصوّر التغييرات اللازمة والكافية لاحتضان وتطبيق تقنيات التعليم في الفصل الدراسي الرقمي البحثي الاستنتاجي التجريبي، وتثقيف وتدريب أجيال كاملة من المعلمين، والذي يجب أن يكون جوهر أي استراتيجية وطنية للنهوض بالتعليم.
والبداية باختبارات منذ مرحلة الروضة، والتي تستمر في كل المراحل لتحديد بوصلة الطلبة نحو التخصصات، التي تصّب في ريادة الدولة، وليس فقط لسد احتياجات سوق العمل، وفي عصر الذكاء الاصطناعي من المعيب أن يكون هناك طالب أو طالبة يعاني من ضعف في التحصيل التعليمي وعدم التدخل العلاجي لرفع المستوى في مرحلة مبكرة، والحال ينطبق على التربية قبل التعليم. وفي حقيقة الأمر هناك حلول من الممكن أن توفر وتجعل ميزانية التدريس والمعلمين أقل من الميزانيات الحالية بنسبة لا تقل عن 80%، ولكن المشكلة في آلية وطريقة تفكير من يقودون التعليم في عالمنا العربي والإصرار على التقليدية، ولماذا ينتظر طالب سنوات طويلة ليدرس الجزء المتقدم من مادة علمية ودراسة مواد لا حصر لها، بدلاً من التخصص بعد المرحلة الابتدائية، واختصار سنوات التعليم الأساسي! فمن الممكن أن يكون لدينا مخترعون وعلماء لم ينخرطوا في الجامعات والكليات، حيث تكون المرحلة الإعدادية تخصصّية كأن يدرس الطالب الرياضيات أو الفيزياء فقط، وفي المرحلة الثانوية يدرس مناهج البحث العلمي، ويقوم بالتجارب ويتخرج ببحث ومشروع تخرج في مادته، وبالتالي لن يحتاج للدراسة الجامعية لمدة أربع أو خمس سنوات، فالتكنولوجيا اليوم تجعل ذلك ممكنًا، بل ضروريًا لتضييق الهوة بين الشرق والغرب.
ومن جانب آخر، فإن التجربة التعليمية المستندة إلى الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى إعادة النظر في من يخطط في وزاراتنا وهيئاتنا لإحداث نقلة نوعية في التعليم في دولنا اليوم، وهل نحتاج إلى هذا الكم الهائل من الموظفين الإداريين والمعلمين اليوم في ظل إمكانية تسخير التكنولوجيا لجعل الفصل الدراسي أكثر من مجرد مساحة مادية باستخدام تقنيات الواقع المعزّز بالشبكة أو الواقع الافتراضي، وإمكانية مشاركة طلابنا بعمق أكبر في مسارات تعليمهم من خلال الذكاء الاصطناعي، فسيحدث القياس والتحسين بصورة يومية، وسنعرف في نهاية كل يوم أوجه القصور حسب الضرورة للبقاء في المسار الصحيح أو التدخل الفوري للعلاج والتفاعل مع طلبة في مختلف أرجاء المعمورة ومشاركتهم في بحوث ودراسات حقيقية، ونعم هناك أسئلة أخلاقية عميقة يجب مراعاتها عند تطبيق هكذا نظام، ويجب على صانعي السياسة فهم الديناميكيات الأساسية للتكنولوجيات إذا ما كانوا يرغبون في دعم التعليم كمدخل محوري لدعم المجتمع بالكامل.
فهناك تحديات متعددة تواجه التعليم في مجتمع رقمي مستقبلي، وستشهد الجامعة الرقمية صعود الذكاء الاصطناعي، والتعلّم العميق (التعلّم الآلي)، والروبوتات، و«الأنظمة الذكية»، والانتقال إلى «مجتمع المعلومات البيولوجي»، وتكنولوجيا الواقع المختلط، والعلم المستند إلى المفاهيم الموحدة للمادة في المقياس النانوي أساسًا جديدًا لإنشاء المعرفة والابتكار والتكامل التكنولوجي، مع التركيز على الاحتياجات والتطلّعات البشرية، حيث يتم تحديد تلك الاحتياجات والتطلّعات في تطوير المناطق الطبية الحيوية والمعرفية في نهج تكاملي ووزارات تفكر خارج الصندوق، مدركة أن هذه لحظة لا مثيل لها في التاريخ، وأن جميع الدلائل تشير إلى أن المبدأ النظري المتمثّل في الاستبدال اللانهائي لرأس المال للعمل قد وصل إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي في عمليات العمل المختلفة، وبالتالي اليوم وليس غداً هي مرحلة التحضير الضخم لـ «الرأسمالية الذكية»، ولماذا نعدّ موظفين لوظائف ستختفي في الأساس؟ هو السؤال الذي يجعلنا ندرك أهمية وضرورة إحداث تغييرات جذرية في المنظومة التعليمية في عالمنا العربي.
*كاتب وباحث إماراتي متخصص في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.