إذا لم يرض السوداني بالحلول التحديثية، الليبرالية الرأسمالية والاشتراكية الماركسية، فلن يبق له إلا «موسم الهجرة إلى الشمال»، وهو عنوان الرواية الشهيرة للأديب السوداني الراحل «الطيب صالح»، والشمال بالنسبة للسوداني هو مصر وليس الغرب، حيث العلم والثقافة وفرص العمل، والسودانيون هم أكبر جالية في مصر، أكثر من الفلسطينيين والسوريين. السوداني يشير إلى أن مصر باعتبارها الامتداد الشمالي للسودان، كما يشير المصري إلى السودان بوصفه الامتداد الجنوبي لمصر، بلدان يربطهما تاريخ مشترك، والنيل بينهما رابط جغرافي وتاريخي، وكذلك النوبة تربط بينهما، وحتشبسوت ملكة مصر من السودان، ومحمد نجيب أول رئيس للجمهورية بعد ثورة يوليو 1952 أمه سودانية، ومحمد علي اعتبر السودان امتداداً جنوبياً لمصر حفاظاً على أعالي النيل، والملك فاروق كان «ملك مصر والسودان».
إن لم تؤثر الأيديولوجيا في اختيار السوداني، وأراد المكوث في وطنه دون أن يهاجره، فليس له إلا الحل الجغرافي التاريخي، أي وحدة وادي النيل، كما كان الحال في التاريخ الحديث للبلدين، وصولاً إلى منح حق تقرير المصير للسودان عام 1956، لكن عبد الناصر أرادها وحدة تجمع بلدين، لا نزاعاً حدودياً يفرّق بينهما.
ولعل الخوف من المداخل الأيديولوجية، مردّه بالأساس إلى احتمال أن تتجه التيارات الأيديولوجية كلها إلى الصراع على السلطة، وتترك مشاريع التنمية التي لا تنقصها الإمكانيات البشرية ولا المادية، فهناك الموارد المائية والأراضي الزراعية والسواعد الوطنية.. والخوف كل الخوف أن يرتكن الشعب إلى الثقافة الشعبية، فيغرق في الاتكالية والتواكل، بدل الاندراج في الحياة العصرية المنتجة والنشطة.
الحل في السودان لا يمكن أن يكون أيديولوجياً، بل اقتصادي بالأساس وبالضرورة، وهو يتمثل في إعداد مشاريع تنموية، تفيد من الإمكانيات الكثيرة المتوفرة، وهو أيضاً حل سياسي بالأصالة، أي بالعودة إلى وحدة وادي النيل، التي من أجلها حارب محمد علي، في سبيل نقل عاصمة الإمبراطورية العثمانية من آسيا إلى أفريقيا، من الأستانة إلى القاهرة، فالنيل لا ينقسم بين شمال وجنوب، كما لا ينقسم الجنوب إلى شرق وغرب، يستطيع الشمال (أي مصر) الأخذ بيد الجنوب (أي السودان)، ويستطيع الجنوب (أي السودان) الأخذ بيد الجنوب (أي جنوب السودان)، ويستطيع جنوب السودان الأخذ بيد بعضه البعض من صراع القبائل على السلطة. وتستطيع وحدة وادي النيل، أن تحافظ على الوحدة بين العرب والأفارقة، بين شمال الصحراء وجنوبها، وأن تقيم الحوار على الأرض بين الإسلام والمسيحية، بين أنصار التراث وأنصار التغريب، بين القديم والجديد، فوحدة وادي النيل هي طريق السودان نحو التقدم، طريق الهجرتين الأولى والثانية لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحو بلاد النجاشي.
خلاصة القول، هي أن وحدة السودان مع مصر مسألة مهمة لكليهما، وإذا تعثر أمن مصر شمالاً، كما حدث منذ غزو الهكسوس قديماً حتى عدوان إسرائيل حديثاً، فإنها قادرة على قطع رأس العدوان في سيناء، لكنها تبقى مطمئنة إلى جنوبها، وإذا انفصل جنوب السودان عن السودان، فإن ذلك يضعف السودان، إن لم يصبه في مقتل، وإذا انفصل جنوب جنوب السودان، فسنكون أمام جسد بلا أطراف، وقد يكون قبول جنوب السودان عضواً بالجامعة العربية مقدمةً لوحدة السودان شمالاً وجنوباً، وحماية له من الطائفية والقبلية، خدمةً لوحدة وادي النيل نفسه.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة