شهدت الاحتجاجات في العراق تصاعداً حاداً في أعمال العنف الدموي مساء الجمعة الماضي بعد أن قُتل 18 شخصاً على الأقل، بينهم أربعة من عناصر الشرطة، وجرح 60 آخرون بعد أن اقتحم مسلحون يستقلون شاحنات صغيرة يشتبه بكونهم مؤيدين لمليشيات طائفية مسلحة، قرب جسر السنك القريب من ساحة التحرير، وقد اختلط بعضهم بالمتظاهرين وقاموا بطعنهم وأشعلوا النيران بأجزاء من مرآب السنك للسيارات. وأكدت منظمة العفو الدولية في تقرير لها بأن الإفادات التي حصلت عليها بشأن الحادثة «لا تترك مجالا للشك في أن هذا الهجوم، كان منسقاً بشكل واضح». وتساءلت المنظمة «حول كيفية تمكن المسلحين المدججين بالسلاح في موكب من المركبات، من المرور عبر نقاط التفتيش الأمنية في بغداد، وتنفيذ مثل هذا الهجوم الدموي بحق المتظاهرين؟»، لتؤكد في تقريرها أن هذه الهجمات تأتي في إطار حملة التخويف المستمرة ضد المتظاهرين، مما يهدد بسقوط ضحايا في صفوف المتظاهرين السلميين والقوات الأمنية. فما هو مستقبل الاحتجاجات في ضوء استمرار محفزاتها؟ وهل يمكن أن يؤدي استمرارها إلى تغييرات جذرية في بنية السلطة بالعراق؟
يشهد العراق منذ مطلع شهر أكتوبر موجة مظاهرات خرج فيها الآلاف في العاصمة بغداد وعدد من المدن الأخرى، احتجاجاً على استشراء الفساد والبطالة وسوء الخدمات العامة. ومع أن معظم المشاركين في هذه الاحتجاجات هم -طائفياً- من الشيعة، فليس ثمة ما يشير إلى أي صفة طائفية للمظاهرات. ومع تصاعد العنف الذي تبنّاه الأمن العراقي في التعامل مع المتظاهرين الشباب، مما أسفر عن وقوع أكثر من مئة قتيل وآلاف المصابين خلال الأيام الستة الأولى للاحتجاجات، مما أشعل المزيد من الغضب عبر البلاد، فقد شهدت الجمعة الماضية أحداثاً دامية بعد انفلات للوضع الأمني في ساحة الاحتجاج وسط بغداد. يشير استمرار حدة الاحتجاجات الشعبية الغاضبة في العراق، بعد أحداث الجمعة الدامية إلى رفض المتظاهرين العراقيين استمرار التدخل الخارجي في شؤون البلاد، وقمع المليشيات المؤتمرة بأمر الخارج للمحتجين السلميين، إذ عثر المتظاهرون العراقيون على عدد من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، و«فوارغ طلقات الرصاص» المستخدمة في قمع وقتل المتظاهرين، التي تشير كلها إلى الجهات المصنعة لهذه الأسلحة والذخائر الخاصة بها.
ويعاني النظام السياسي العراقي من الهشاشة نتيجة انتشار الفساد وهيمنة نظام المحاصصة الطائفية بين الكتل والأحزاب، وهو ما خلق حالة من الجمود السياسي أفقدت النظام قدرته على التغيير الداخلي. وجاءت احتجاجات أكتوبر عفوية بلا قيادة سياسية تبلور المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للضغط على النخبة الحاكمة، كاستمرار لحالة السخط العامة لدى الشعب العراقي بكافة فئاته على النخبة السياسية الحاكمة، والتي ظلت منذ عام 2004 تلعب لعبة الكراسي السياسية. وتزامن اندلاع الاحتجاجات مع مرور عام كامل على تشكيل الحكومة العراقية برئاسة عادل عبدالمهدي، والتي كان يفترض أن تعالج ملفات الفساد الموروثة عن الحكومات السابقة، لكن أداء حكومة عبدالمهدي اتسم بالبطء في مكافحة الفساد، مما أبقى الحال على ماهو عليه، إن لم يزده سوءاً. وجاءت استقالة عبد المهدي بعد دعوة السيستاني الحكومة للتنحي على أمل إنهاء الاضطرابات. وطالب السيستاني باختيار رئيس وزراء جديد للعراق دون تدخل خارجي.
ويواصل العراقيون الاحتجاجات التي تمددت جغرافياً، ويرى كثيرون أن استقالة عبد المهدي كانت لتهدئة الشارع فقط دون أن تتوافر للنخبة الحاكمة رغبة حقيقية في تغيير المعادلة السياسية في البلاد، لكن المؤكد أن الإمعان في قمع التظاهرات لن يمنع استمراريتها بعد أن عرّت المشهد السياسي العراقي مبرزةً قبح الوجود الخارجي في مؤسسات الدولة العراقية ومؤكدةً الرفض العراقي لذلك الوجود الممتد، ومساهِمةً على المدى البعيد في تغيير المشهد السياسي العراقي.