الأنثروبولوجيا الأفريقية أوقفت الحديث عن الجذور والقبائل، ولم يعد صحيحاً حديث الإثنيات، والديانات كأساس لتصور العالم، بل راحت أفكار وعوالم أخرى تسود الساحة، مثل الاتحادية ‏Federalism ?أوالوحدة [?Pan Africanism ?والإقليمية?، ?ودخول ?السوق ?الدولي ?... إلخ.
وبتطور «الحالة الأنثروبولوجية» في القارة، تطورت من حولها أجواء الصراع الدولي، وتنوعاته، ولم يعد «الاستقطاب» أو المحاور الدولية محدودة الأطراف هي الأساس، مثل سابق أشكال الصراع الدولي. وبتطور مفاهيم وآليات الفهم الأنثروبولوجي الحديث للواقع الأفريقي، أصبحت الدول الكبرى نفسها تسعى إلى الأقاليم الأفريقية المختلفة، وفق معايير متجددة. أصبحت نيجيريا مثلاً قوة عسكرية وليست مجرد قوة قبلية تضم «اليوروبا» و«الإيبو».. إلخ، وأصبحت السنغال مثالاً ديمقراطية وليست مجرد عاصمة ثقافية.
أين العامل الثقافي المتفرد إذن الذي كانت تعتمد عليه تقسيمات ذات طابع أنثروبولوجي، مثل «الفرانكفونية» أو «الأنجلوفونية» حتى دخلت أيضاً - بقوة - أنجولا وموزمبيق - عناصر «الليزوفونية». الآن أصبح التقسيم على أساس ملكية البترول أو المساحات الزراعية أو مشروعات السدود. فالارتفاع بمعنى آلية الأنثروبولوجيا جعلتها أداة جديدة لتيسير أشكال الصراع.
وقد برز مفكرون أفارقة أثناء التنقيب عن العوامل الداخلية في أفريقيا والتفاعل بين الثقافي والمادي، بل والصراع الدولي. فالمفكر الغاني «كويسي براه» له عدد من الكتب، ويرأس مركزاً مرموقاً في «كيب تاون»، ويقيم أقوى العلاقات مع الصين الشعبية ومثقفيها، ويعقد معهم الندوات وتبادل الزيارات، وفي كتبه التقدير والتحليل المعمق للتجربة الصينية في أفريقيا وخارجها، بل وكان طرفاً في تنظيم مؤتمرات الصين في أفريقيا: قمماً وأكاديمياً
كذلك يمكن رصد أعمال سمير أمين المفكر المصري الأفريقي المعروف، وهو يجول بين التجربة الصينية والروسية، بنظرة تحرير العالم من «الاستقطاب» الرأسمالي العالمي، بما يقول ضمناً إن الأنثروبولوجيا السياسية تقف في مواجهة الإمبريالية.
والمؤتمرات حول الثقافات الأفريقية، والتفاعل الثقافي والسياسي الأفريقي باتت تَعرف أين تضع أفريقيا وسط العالم، وكيف تجعل من الثقافات الأفريقية مجالاً للتوازن، مع تقدير «الصعود» المرصود أساساً للحالة الصينية، ونسبياً للحالات الأخرى.
وقد أدخلت أنثروبولوجيا الثقافات الأفريقية، ضرورات على البحث الأنثروبولوجي الحديث مثل إعطاء الاعتبار لقوى إقليمية متفاعلة معها، من قبل قوة دول إقليم أو آخر في جنوب شرقي آسيا، أو الخليج، أو بعض مناطق أميركا اللاتينية.
بقى أن نعرف كيف دخلت أفريقيا في حوار مع قضية العولمة؟: كان صعباً على الواقع الأفريقي أن يصدر المواقف أو يدفعها نحو تصورات للعالم وسط حالة «الاستقطاب» السائدة، حتى تبلور الحضور السياسي والثقافي لقوى جديدة مثل الروس والصينيين، وأصبحت الأنثروبولوجيا الأفريقية تقدم صوراً مختلفة عن القارة، قادرة على الحوارات..ويمكنا ملاحظة تدرج هذه الظاهرة مع تطور الواقع الأفريقي. فقد كان هناك الحوار الثلاثي (الأوروبي - العربي - الأفريقي)، وتفرع إلى الحوار الأوروبي العربي فقط، ثم شاءت أوروبا الانفراد بمناطق الثروة فقط فسادت تعبيرات جديدة عن الحوار الجديد، وهي في كل ذلك تتعامل بمفاهيم أنثروبولوجية حول الهوية والقومية والإقليمية.. إلخ تبثها من خلال هذه المفاهيم لتبني عليها - رغم محدوديتها - سياسات دولية. ولننظر إلى سياسة فرنسا في الصحراء الكبرى، وحوارها مع توازن المصالح الفرنسية الجزائرية. وهناك مثلاً فهم خاص لأنثروبولوجيا «غينيا بيساو والكاب فيرد» لتيسير «السياسة الدولية» حول تهريب المخدرات، ثم السلاح، ثم الإرهاب متكاملاً.
دراسة الإرهاب في مجملها محتاجة لمراجعة الدراسات حول أنثروبولوجيا المناطق المختلفة في القارة وتعدد المصالح حولها. وماذا تعني اتهامات بعض الدول بدعم الإرهاب أو تجارة السلاح، أو النفوذ الإقليمي، إلا بالاعتماد على أنثروبولوجيا جديدة. وتشكل أفريقيا في كل ذلك حلقة اتصال بالغة التأثير في علاقات جارية بين أفريقيا وأميركا اللاتينية وشرقي آسيا، ولذا تبرز الزعامات، وتتأكد المصالح في القارة على فهم كل زعيم لتأثيرات بلاده التاريخية والحديثة، وفهم أنثروبولوجيا أفريقيا والعالم.

*مدير مركز البحوث العربية والأفريقية - القاهرة