تعلمت من أبي كيف لي أن أعشق هذا الوطن، تَعَلَّمْتُ منه كيف لي أن انظر عالياً بفخر واعتزاز، كيف يكون الولاء. تَعَلَّمْتُ منه كيف لي أن أقف شامخة وإن تعَثَّرَ جَوَادِي، تَعَلَّمْتُ كيف أخطو بخُطُوَاتِ ثِابتة لا يغيرها الزمان، تَعَلَّمْتُ منهُ أن تكالَب الناسُ على الدّنيا لا يشدّد حرصُي عليها. تَعَلَّمْتُ منهُ أن أضع كلماتي في موقع ومَواضِعِ حُروفِها.
لا زلت أتذكر ذلك اليوم عندما كنت في المرحلة الابتدائية وكان يومي الدراسي الأول، لا زلت أتذكر ذلك الشموخ وتلك الهَيْبَةُ المَمْزُوجَةً بطَيِّبُ الْخُلُقِ. كنا في الثاني من ديسمبر وكانت جميع الدولة تحتفل بهذا اليوم، آنذاك لم أكن أعي ما هذه اليوم، ولماذا نحتفل به؟ دخلت معه، وأنا في ريبة من أمري، فأقْصَى مَا كان يجَول فِي خَاطِرِي رغبتي في العودة إلى البيت، وبين أحضان أمي كان هو مرتعي.
كان يتقلد ذلك البِشْتُ في يده اليمنى وفي يده اليسرى يمسك بذراعي وفي لحظة ما عند مدخل الرئيسي للمدرسة بدأ النشيد الوطني لم أفهم حينها لماذا توقفنا بدا لي شامخاً ورفع رأْسُه إلى السماء عالياً لا زلت أتذكر ذلك اليوم أقبلت إدارة المدرسة ترحب بنا ومع بداية حديثهم معهُ، بدأ النشيد الوطني فقاطعهم قائلاً: عذراً النشيد الوطني، فالتزم الجميع الصمت، وماهي إلا لحظات حتى سمعت صوتاً جميلاً يُرَدد لَحْنَا كان أبي يردد النشيد بصوت جميل.. الأعلام ترتفع شيئاً فشيئاً ومعهُ طَفَّفَ سرْبُ من الطير عالياً في ظل تَرنم أبي العَذْبٌ فصوته يرَفَّ له القَلْبُ. لا زلت أذكر تلك الصورة وكأنها أمام عيني. ارتفعت الأعلام وبِمُحَاذَاتِها ترتفع الطيور في طيرانها وكأنها تراقصها وتسير على منْوالها تستدير وتحلق في سماء أبوظبي.. كان يوماً غريباً بنسبة لي شعرتُ حينها بقشعريرة تراقَص فؤادُي وشيْء ما بين جناحيي لم أفهمه ولكنها أثرت بي.
وما أن انتهى النشيد، تقدمَ أبي بخطوات واثقة ورَسَّخ كَلّمْتهُ ِفي قلوبنا، كلمة لم أنساها قط. قال: «إن هذه سماء هي سماء إماراتنا الحبيبة، وهذا عَلمنا نرفعه عالياً حتى يظل شَامِخَاً، وهذه الألحان نشيدنا الوطني هذه هُوِيَّتُنا وحَقِيقَتنا وَصِفَاتُنُا الْجَوْهَرِيَّةُ وهذا شِعَارُنَا. نحن في يوم تقشعر له الأبدان، ففي مثل هذا اليوم أصبحت لدينا دولة نفتخر بوجودها. في مثل هذا اليوم توحدنا وتواجدنا في خريطة العالم. هنا كنا، ومن هنا سنمضي، ومن لا وطن له لا وجود له». عبارات أبي ظلت حبيسة في خاطري، ومن هنا نما في خاطري انتماءٌ وعشق وولاء إلى وطني الحبيب.