مازالت تصريحات الرئيس الفرنسي عن «الموت السريري» لحلف شمال الأطلسي (الناتو) تلقي بظلالها على العلاقات بين الدول المكونة للحلف، خاصة بعد تصريحات الرئيس التركي الأخيرة والتنديد الفرنسي بها، حيث اعتبرت الرئاسة الفرنسية أن ما قاله الرئيس التركي ليس تصريحاً بل إهانة. وعطفاً على مقالتنا الأسبوع الماضي، سنطرح هنا سؤالاً ونحاول الإجابة عليه: ما الذي دفع الرئيس الفرنسي لذلك التوصيف غير المسبوق؟ أظن أنه يفهم جيداً، على غرار الاستراتيجيين الذين يحللون سياسة الرئيس الأميركي ترامب، أن استراتيجية الإدارة الأميركية الحالية قائمة على «أميركا أولاً» وعلى «مصلحة أميركا الاقتصادية أولاً»، وهي تتعارض مع القيم الاستراتيجية المشتركة التي آمن بها الرؤساء الأميركيون السابقون. بمعنى أن الرؤية التقليدية لأميركا عن العالم، وبالأخص عن «الناتو»، يُحدِث فيها ترامب زلزالاً مدوياً، مما غيّر الكثير من الأمور في العلاقات الدولية.
ويرى ترامب نفسَه صاحب شركة تملك العالم، وليس رئيس دولة عظمى. فكل دولار تنفقه أميركا على المنظمات الدولية، وكل اتفاقية تجارية (ولو كانت خاضعة للقواعد التجارية العالمية).. يجب خضوع ذلك بأسره لميزان «أميركا أولاً». ويعلم الرئيس ترامب علم اليقين أن هذه السياسات الخارجية تنال ثقة الشعب الأميركي الذي صوت عليه، انطلاقاً من المبادئ التي يطبقها اليوم في النظام الدولي، كما أن له أنفة رجل الأعمال الناجح الذي يصعب عليه التنازل عن قراراته.
مستقبل الرئيس ترامب في آخر سنة من ولايته الرئاسية الأولى أكبر مجهول يمكن أن تبني عليه الدول الغربية سيناريوهات التعاون الاقتصادي والعسكري والاستراتيجي المقبل مع الولايات المتحدة. وإذا بقي «الجمهوريون» في الحكم لولاية أخرى، أي بقي ترامب في البيت الأبيض، فإن قواعد النظام العالمي الجديد التي رسم معالمها ترامب بنفسه، ستدفع لا محالة إلى مزيد من تمزيق التعاون الأوروبي الأميركي، خاصة أن «أميركا ترامب» ليس في صالحها اتحاد أوروبي قوي ولا تريد إعطاء المزيد من الدعم المالي واللوجستي للحلف الأطلسي، وفهمنا ذلك جلياً من خلال الضمانات التي أعطاها ترامب لبوريس جونسون وحكومته منذ أشهر، بعد أن تخوف كثير من البريطانيين من طلاق مؤلم لخامس أكبر اقتصاد في العالم مع الاتحاد الأوروبي، وهذا من شأنه تقويض النمو الداخلي والضغط بشدة على أسواق المال وإضعاف وضع لندن بوصفها المركز المالي الدولي الأبرز، كما ستكون له تداعيات سلبية خطيرة على الاقتصاد البريطاني تتعدى التخوفات التي كانت تطلقها بعض الأحزاب لتبرير عملية البريكسيت، خاصة في مجال الهجرة.
وهناك سيناريو آخر، وهو وصول «الديمقراطيين» إلى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وعودة «التوازن الأوبامي» في السياسة الخارجية، ورجوع الأمور إلى مجاريها الطبيعية في العلاقات الدولية.. لكن ثمة توجه تحليلي أميركي يوحي بأنه حتى علاقات «الحزب الديمقراطي» مع ناخبيه ستتغير بناءً على الخطط والسياسات العمومية التي أوصلت الرئيس ترامب إلى الحكم. وقد أشار إلى ذلك هنري كيسنجر بذكاء عندما قال بأن وصول ترامب إلى البيت الأبيض «سمح بتأسيس توافق بين سياساتنا الخارجية وحالتنا الداخلية، فقد كانت هناك فجوة واضحة بين منظور العامة، ومنظور النخب، حول السياسة الخارجية الأميركية. أظن أن الرئيس الجديد لديه فرصة للإصلاح بينهما». و«الديمقراطيون» يفهمون ذلك جيداً، وإذا ما أردوا جلب الأصوات فعليهم تبني بعض من هذه الاستراتيجيات بما في ذلك نوعية التحالفات التي تعقدها أميركا في مناطق الصراع والمصالح الاستراتيجية لها.
آخر الكلام: استراتيجية التقليل من عدد الجيوش والرفع من قوة التدخل ودقة التخطيط أعطيت للمسؤول الثاني في الحلف القائد الأعلى المكلف بالتغيير(SACT) ، ومقره ليس في بروكسيل، بل في نورفولك (NORFOLK) بالولايات المتحدة، حيث قوة الاختراعات العسكرية والتطور العسكري المدهش. ولا غرو أن الصين تمثل المستقبل العالمي للذكاء الصناعي والعسكري في أعلى تجلياته، وهذا ما فهمه الرئيس الفرنسي الشاب قبل زملائه الألمان والأوروبيين، ومن هنا زياراته المتكررة للصين وتقاربه معها. ولا أظن أن أميركا ستنظر بعين راضية إلى هذا التقارب الفرنسي الصيني، بل ستفعل كل ما بوسعها لإيقاف هذا التحالف.


*أكاديمي مغربي