لأول مرة في تاريخ لبنان، تلجأ المصارف إلى تقييد حركة الأموال «كابيتال كونترول»، خصوصاً لجهة التحويل إلى الخارج، أو حتى سحب الودائع بالدولار، وذلك لتخفيف حدة مخاطر «الدولرة»، التي تشكل نحو 74% من مجموع ودائع القطاع البالغ 176 مليار دولار، وتأثيرها على مسيرة الاقتصاد الوطني، وانعكاسها السلبي على سعر صرف الليرة، الذي تجاوز في الأسواق السعر الرسمي «المثبت»، من قبل البنك المركزي، منذ أكثر من 26 عاماً.
كان المراقبون يتخوفون من احتمال إقدام مصرف لبنان على تنفيذ هذه الخطوة، لكنهم اطمأنوا عندما أوضح الحاكم، رياض سلامة، بأن هذا الأمر غير وارد وفق قانون النقد والتسليف، وأن اللجوء إليها يتطلب إصدار قانون من المجلس النيابي وموافقة السلطة التنفيذية، لكن هؤلاء فوجئوا بالمصارف بعد إقفال أبوابها مدة 22 يوماً على مرحلتين، بإقدامها من تلقاء نفسها على اعتماد الاستنساب، بفرض قيود على أموال اللبنانيين من دون أي مسوغ قانوني، بدءاً من استئنافها العمل يوم الثلاثاء الماضي، وحددت جمعية المصارف سقف سحب المبالغ النقدية 1000 دولار أسبوعياً كحد أقصى، وتركت في الوقت نفسه لكل مصرف حرية الاختيار بالتعامل مع زبائنه، وتطبيق السقوف التي يرتئيها، وهي تختلف من زبون إلى آخر، في ضوء حجم حسابه الجاري.
جاءت هذه الخطوة، بعدما تعرض النقد الوطني إلى ضغوطات قاسية، قدر حجمها بنحو 15 مليار دولار، خلال الستة أشهر الأخيرة، مقسمة إلى 7 مليارات تحولت من الودائع بالليرة إلى الدولار، ونحو 3 مليارات سحبها المودعون إلى خزائنهم الخاصة، و5 مليارات تم تحويلها إلى الخارج، وانعكس ذلك سلباً في تراجع عامل «الثقة»، الذي ساهم بارتفاع عجز ميزان المدفوعات، إلى نحو 6.4 مليار دولار.
قليلة البلدان، التي تعتمد سياسة تقييد عمليات سحب وتحويل الأموال، مثل الصين والبرازيل والأرجنتين، في حين أن دولاً أخرى تلجأ إلى «كابيتال كونترول» لفترات زمنية محددة، لتجنب هروب الودائع إلى الخارج، وضمان استقرار النظام المالي المحلي مثل قبرص (عام 2013)، وهي أول بلد في الاتحاد الأوروبي يفرض قيوداً على حركة رأس المال، وتم تطبيق «كابيتال كونترول» بإجماع سياسي، كذلك اليونان (2015) فرضت ضوابط على السحب النقدي، وسقوفاً للتحويلات إلى الخارج، لكنها استطاعت تخفيفها تدريجاً، إلى أن تم رفعها في سبتمبر الماضي، لذلك يؤيد صندوق النقد الدولي تطبيق إجراء«كابيتال كونترول» بشكل مؤقت لاجتياز الأزمة المالية، أما معهد التمويل الدولي فقد أشار في تقرير بعنوان «القيود على خروج الأموال من لبنان تظهر الحاجة إلى الإصلاح»، إلى أن الضوابط يمكن أن تستخدم بمثابة استجابة فعالة لحالات الذعر غير المنطقية والمضرة، وشدد على أن تشكيل حكومة تكنوقراط في الوقت المناسب، وتنفيذ إصلاحات عاجلة، يمكن أن يسهل الحصول على قروض «مؤتمر سيدر»، بما يعزز الثقة، ويمهد لإزالة الضوابط الرأسمالية بأمان، وبما أن المصارف تملك سيولة وافرة، وتعمل حالياً في ظل موجة «عدم يقين عاتية»، فإن القيود «مؤقتة»، وتشكل حاجزاً لحماية النظام، حتى تعود الأوضاع إلى طبيعتها.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية