خلال العقد الماضي، أدى ذوبان الجليد في المنطقة القطبية وارتفاع مستويات البحار في المحيطين الهادئ والهندي إلى اضطرابات كبيرة، وفي بعض الحالات إلى اختفاء مجتمعات صغيرة غير قادرة على الصمود في وجه الطبيعة. غير أنه في الآونة الأخيرة فقط بدأت التأثيرات العالمية لتغير المناخ توقظ السكان الأغنياء في آسيا وأوروبا والأميركيتين، وتنبّههم إلى المخاطر التي بتنا نواجهها جميعاً، نحن سكان كوكب الأرض، في حال لم يتم اتخاذ إجراءات جذرية من أجل التخفيف من الأسباب المؤدية إلى تلك المخاطر.
ويعني ذلك ضرورة اعتراف الحكومات والمجتمعات بحقيقة أن فترات الجفاف الطويلة والطلب المتزايد على إمدادات الماء الصالح للشرب، تزيد من أخطار المجاعة والأوبئة وانتشار الحرائق في معظم مناطق العالم. كما يجب عليها أن تعترف بأن ارتفاع مستويات البحار سيجعل الكثير من المناطق الساحلية هشة وضعيفة على نحو متزايد، وأن تغير الأنماط المناخية سيعني ظهور أعاصير وعواصف أكثر قوة وخطورة، ستزيد من إمكانية حدوث فيضانات كبيرة ومدمرة، بسبب الأمطار الطوفانية والمد البحري المرتفع.
بلدان غنيان شهدا في الآونة الأخيرة حقيقة بعض هذه العوامل بطريقة مرعبة، وأثبتت للرأي العام جدية التغير المناخي وأخطاره الحقيقية. ففي شهر نوفمبر الجاري، شهدت مناطق واسعة من شرق أستراليا أسوأ حرائق غابات في التاريخ المحلي. الحرائق جد خطيرة لدرجة أنها دفعت السلطات إلى إعلان حالة طوارئ في معظم المناطق، بما في ذلك سيدني، أكبر مدن أستراليا وأكثرها شهرة. وقد تسببت هذه الحرائق في جفاف طويل ورياح عاتية على نحو استثنائي، ولم يتم احتواء سوى بضعة من الحرائق المنفصلة التي يناهز مجموعها المئة، ومازالت الأزمة متواصلة، ونحن الآن في منتصف شهر نوفمبر. وهذه ليست سوى بداية الصيف الأسترالي، ولهذا فإن المخاوف تزداد من حدوث حرائق مستقبلية أخرى أشد خطراً.
وفي كاليفورنيا، تشتعل الحرائق منذ أكثر من ثلاثة أسابيع في كل من شمال الولاية وجنوبها. وفي هذه السنة بدأت الحرائق في الجنوب تدمر الممتلكات وتهددها، بما في ذلك «مكتبة رونالد ريغان الرئاسية» في وادي سيمي ومناطق لوس أنجلوس الغربية الغنية جداً، مثل «متحف غيتي» الشهير، والمنازل الكبيرة لمشاهير الرياضة والسينما في منطقة «بِل إير» إلى الغرب من «بيفرلي هيلز» و«هوليود». وعندما يُرى المشاهير وهم يقومون بإخلاء منازلهم، تتكثف التغطية الإخبارية وتصبح التحديات السياسية لتغير المناخ حديث الناس وموضع قناعتهم أكثر فأكثر.
والواقع أن كلاً من أستراليا والولايات المتحدة يتزعمهما رئيسان لديهما سجل مناهض للاعتراف بالتغير المناخي وأخطاره البيئية على الحياة الإنسانية في كوكب الأرض. وفي حالة دونالد ترامب، فإنه اتخذ خطوات فعلية لمنع مشاركة الولايات المتحدة في المنتديات الدولية التي تتناول هذا الموضوع، ومن ذلك قراره بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ الموقعة في عام 2015. غير أن الخبر الأكثر تشجيعاً وإثارة للتفاؤل هو أن استطلاعات الرأي العام في الولايات المتحدة تُظهر أن عدداً كبيراً من المواطنين الأميركيين، وخاصة من جيل الشباب، باتوا يأخذون مخاطر تغير المناخ على محمل الجد والاقتناع، وأنه أصبح الآن أحد المواضيع الرئيسية في المناظرات الجارية داخل «الحزب الديمقراطي» في إطار الانتخابات التمهيدية التي ستفرز مرشح الحزب لانتخابات الرئاسة الأميركية، والذي سينافس دونالد ترامب في نوفمبر المقبل.
والمهم أيضاً هو أن عدداً أكبر من حكام الولايات الأميركية الأكثر عرضة للتهديدات المناخية، أخذوا يرفعون أصواتهم تأييداً لإجراءات أكثر قوة وحزماً من أجل الحد من انبعاثات الكربون، ولخطوات أخرى أكثر فورية من أجل الحد من أضرار ارتفاع المد والحرائق. ومن بين المؤيدين الرئيسيين لإجراءات أكثر جذرية، هناك القوات المسلحة الأميركية، وخاصة البحرية الأميركية التي تقع كل قواعدها الضخمة عبر البلاد على مستوى البحر، وباتت تواجه بشكل مستمر خطر التعرض للفيضان أثناء وقوع المد البحري. وهذا يشمل أكبر القواعد البحرية في الولايات المتحدة في نورفولك بولاية فرجينيا.
لقد أصبح تغير المناخ الآن موضوعاً سياسياً جدياً بالنسبة للسياسيين الأميركيين. والأشخاص الذين ما زالوا يرفضون الاعتراف بحقيقته، بات يُنظر إليهم على نحو متزايد باعتبارهم «منفصلين عن الواقع» وغير قادرين على تجاهل كارثة عالمية متنامية من خلال تعليقات سلبية غير لائقة. وهذا على الأقل هو التقدم!

*مدير البرامج الاستراتيجية بـ«مركز ناشيونال انترست»- واشنطن