كلما أبحرتُ في سير السعوديين الكبار، أسبر أغوار نشأتهم، وأتأمل تطوراتهم، وأرصد تجاربهم، أتحسر على زهدهم في كتابة سيرهم، بسبب التواضع، أو التأجيل، وربما الإحباط، وأرجو ألا أقول إن ضمن هذه المبررات، ما يقنع المرء نفسه به، دفعاً للكسل!
ومما يخفف ألم عدم كتابة المثقف عن نفسه، كما في حالة شاعر، سعودي، فحل، مثل المرحوم، محمد عواض الثبيتي، الصابر والمتجلد، على حملات التشويه الجائرة التي طالته طوال رحلته، ومن النعم التي لا يحسب لها حساباً، أن يقيض الله لك باحثين، يسدون الفجوة، ويجبرون الكسر، لهذا بدت سيرة الثبيتي، أكثر إضاءة في كتابة، علي الأمير.
خصص الناقد الأمير، كتاباً جميلاً، عنوانه: «الثبيتي يتلو أسارير البلاد-الإيقاع ومقاربات المعنى في ترتيلة البدء. قراءة أسلوبية». دارساً حالته بشكل فاحص، كاشفاً عن ذائقة نقدية بديعة، لدواوين الثبيتي، مترحلاً في عوالمه، مستقصياً فضاءاته، واقفاً على مفرداته، مستوعباً قاموسه اللغوي المتفجر. دبج الأمير، كتابه، بسيرة تكشف معاناة الشاعر الراحل، ووعورة الطرق التي واجهها، وصعوبة الدروب التي سلكها، مؤرخاً مخاضات القصيدة الأولى، حيث القرية، وبركة الأبوين، ومكتبة المنزل المتواضعة، والتعب الذي عاناه الثبيتي من أجل الحصول على كتاب، وهو يشق في حياته مفاجآت التضاريس.
يروي الكتاب، محطاتٍ مهمةٍ، من حياة الشاعر الكبير، بداية من قرية الشروط، في محافظة بني سعد، جنوب الطائف التي شهدت صرخة ولادة الثبيتي، عام 1952.
ويذهب الأمير، إلى أن قرض جد الثبيتي، «منيع» للشعر، وولعه به، أيقظ ذوقاً شعرياً مبكراً عند محمد.
ولعل رحلة التكوّن الحقيقي، بدأت مع الانتقال إلى مكة، فالرحيل المبكر عن القرية، مكن الشاعر الأثير من غرس كلماته، بعناية فلاحٍ يبذر زرعه بحبٍ، راجياً أجمل قطاف، مداوماً سقياه بما رآه في حياته ودنياه، وما تأثر به من تراكم وتحصيل.
أثّرت مكة على شعره كثيراً، بمستوى تأثير بيئة قريته الجبلية، يقول علي الأمير: «لم يترك محمد خلفه، في بني سعد، قرية الشروط فقط، بل ترك الطفولة، والأسرة، وملاعب الصبا، وذكريات القرية، في هذه القرية الصغيرة، فتح محمد الثبيتي عينيه على مكتبةٍ، متواضعةٍ لأسرةٍ قروية، أو قل بدوية... لم تكن تحفل بغير كتب الدين، والقليل من الشعر القديم... وعندما رأى والده حبه للقراءة وتطلعه للمعرفة التي لا يتوافر فيها غير التعليم الابتدائي، شأنها شأن كثير من القرى آنذاك، قرر إرساله إلى جدته التي تسكن مكة المكرمة».
من يقرأ دواوين الثبيتي، يرى في إيقاعه وزناً خاصاً، له رنين مختلف عن غيره، يحضر فيه المخيال الديني كثيراً، وكثافة الاستشهاد بالمصطلحات الدينية، موظفة بشكل جمالي، في بديع شعره.
الاطلاع المبكر على علوم الدين، وأجواء المدينة المقدسة، بحجاجها ومعتمريها، الطائفين الساعين، ساهم في صناعة مفردات الثبيتي، ولكن الأكثر أهميةً، والمفاجأة التي ساقها لي الكتاب، حول الثبيتي، أنه عمل مُطَوِّفاً، أي مرشداً يُلقن الحجاج والمعتمرين، أفعال الحج والعمرة، ويتلو عليهم الأدعية، ليرددوها خلفه!
يعتبر علي الأمير، أن الهدف من اختيار هذه الوظيفة، كان تأمين دخل مناسب له، إذ لم يكن يتمكن من شراء كتاب، وهو الذي عشق الكتب وهام بها، منذ كان بين أهله بالقرية، ولما عاش بمكة: «لم تكن جدته من الأثرياء كذلك، فتدلل حفيدها، ولعل أكثر ما يتذكره عن جدته، هو أنها كانت تصغي إليه بكل ما أوتيت من الحب، وهو يروي لها من قراءاته المبكرة عن عنترة العبسي، وقصة الزير سالم، وتغريبة بني هلال... وجد محمد نفسه في سنة من سني عمره يعمل مطوفاً للحجاج والمعتمرين في الحرم المكي، من أجل عائد قد يعين على تأمين بعض احتياجاته التي في مقدمتها الكتاب».
دراسة علي الأمير، عن الثبيتي وشعره، هي امتدادٌ لدراسات ومقالات عميقة، كتبها الدكتور سعيد السريحي، فلكل أمةٍ شعراؤها الكبار. ولدينا نحن السعوديين شعراؤنا العمالقة، وفي طليعتهم محمد العلي، والثبيتي، رحمه الله، وعبدالله الصيخان، ومحمد جبر الحربي، إضافة إلى (الصحيح لذاته) جاسم، الذين نتمنى عليهم أن يهدوننا كتابة لتجاربهم، كما أهدى الصحيح قصيدة إلى روح الثبيتي، فيهار:
إيهٍ (أبا يوسفٍ).. لا زَلَّ عن شفتي    اسمٌ على صفحاتِ الريحِ يَنْكَتِبُ
عظمُ البيانِ رميمٌ وَسْطَ هيكلِهِ    فلا القصائدُ تُحْيِيهِ، ولا الخُطَبُ
تَعَنَّبَتْ شَفَةُ الذكرى ونادمَني        حزني عليكَ ودارَتْ بيننا النُّخَبُ
*سفير المملكة في الإمارات