يعرف المتضلعون في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية أنه منذ ظهور كلمة «ثقافة» في اللغات الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت موضوعاً تفنن فيه علماء الأنتروبولوجيا وعلماء الاجتماع، الذين جعلوا من «الثقافة» أحد فروع العلوم الاجتماعية. وهو ما أدّى إلى تكوين العديد من المدارس والتوجهات الفكرية عنها، واقتراح العديد من مناهج البحث في ظواهرها. نذكر من تلك المناهج: المنهج التطوّري، والمنهج البنيوي، والمنهج التاريخي. وهذا الأخير هو الذي يَعتمده الباحثون في تحليل العلاقة العضوية بين التاريخ والثقافة، حيث لا يمكن تصوّر مجتمع ولا فرد في نظرهم مجرّدَين من الثقافة. وجاءت المحاولات التفسيرية المتعلقة بالذهنيات عند العرب في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، بغية الوصول للقول بأن كل ما له صلة بالإنسان العربي والعقل العربي هو رديف للتراجع السياسي والحضاري، فأصبحت تلك الذهنيات العامل المستقل في تفسير غياب الانفتاحات السياسية والمؤسسات القوية والتنمية الاقتصادية والتطور الصناعي.
ولا جرم أن نجد في الكثير من الكتابات استهانةً بالعقل والذات الحضارية العربية، وعندما توصف الذهنيات والمسالك فإنها تنعت بالبطركية وهيمنة التراث المتحكم والجامد الذي لا يمكنه التغير. وقد تبع الغربيين في هذا التفسير زمرةٌ من المفكرين العرب، فنجد  فؤاد إسحاق الخوري بكتابه «الذهنية العربية: العنف سيد الأحكام» ليرى في التقاليد وبنية النفوذ الشبيهة «بحبات العنقود» مسالك تطمس على قلوب وعقول الناس، فيصعب بذلك إنشاء «سوق سياسي» مستقل يتنافس أطرافه فيما بينهم، وبالتالي تتعذر ممارسة اللعبة الديمقراطية الصحيحة. كما نجد عالمًا أنثروبولوجياً آخر هو هشام شرابي يأتي بنظرية «الأبوية المستحدثة» التي لا تتماشى وقواعد الحداثة، ولها انعكاس مباشر على السلطوية السياسية، والشيء قد يقال عن المفكر المغربي عبد الله حمودي في نظريته عن «الشيخ والمريد».
ولا جرم أن ما وقع الأمس واليوم في ليبيا والعراق مثلاً قد تتداخل فيه عوامل متعددة، منها عمليات التجييش الطائفي، وإشعال وقود التشرذم ورفض الآخر، لكن لأي هدف؟ إنها جميعها لأهداف سياسية ولتحقيق الزعامات السياسية ولبلوغ أجندات داخلية وخارجية.. بمعنى أن العامل السياسي الذي كان مسؤولاً عن غياب نسائم الانفتاح السياسي، هو المسؤول اليوم عن الانفلاتات الأمنية والتطاحنات بين إخوة الأمس، والتمزقات المتتالية التي لا تكاد تجد منها بعض الدول ملاذاً لتحقيق مصالحها سراً وبنتائج سريعة!
مَن يتصفح كتب العلوم السياسية سيجد فيها أن كل المنغصات الطائفية والنرجسية القومية يمكنها أن تنصهر في إطار الدولة الموحدة حيث يتقاسم فيها كل المواطنين نفس الحقوق ونفس الواجبات، وسيجد فيها الجميع أن مفهوم الملكية الجماعية للسلطة، هو ما يمكن أن يجمع أكثر من أربعين طائفة مختلفة في دولة ديمقراطية واحدة وبساكنة تتعدى المليار نسمة كما هو شأن الهند. لقد زرت هذا البلد مؤخراً ورأيت فيه من الفوارق الاجتماعية ما لا يوجد في بلد آخر، ولولا الانتخابات الديمقراطية فيه، والبرلمان القوي الذي ينعم به.. لكان الحراك الاجتماعي في نشاط دائم.
ولعل مثال لبنان اليوم يمكن أن يعطينا صورة عن تلك المجالات السياسية العامة التي لا يمكن أن تستقيم عندما تكون الولاءات للطوائف وليس للدولة الوطنية التي يجب أن تحضن الجميع في ظل مؤسسات موحدة وقوانين جامعة ومسؤوليات واحدة.. إلا أن الذي وقع في لبنان هو انتصار للطائفية، وما تلا ذلك من توقف للعمليات التنموية وهدر للمال العام، علماً بأن الدستور اللبناني ليس طائفياً بل يعتبر الطائفية «مؤقتة». وهو ما جعل الكثيرين في لبنان ينادون بتأليف حكومة ‏ تأخذ بالاعتبار أن واجبها الأساسي هو الابتعاد عن الطائفية في المجال العام وأن على الساسة الجدد أن يكونوا مجسدين لوحدة وديمومة المؤسسات العمومية، وذانك شرطان لنجاح أية عملية سياسية في العالم.