جهاز لوحي، وحاسب محمول وعيون الوالدين تترقب نتاج «المربي المجهول»، بعد ما كانت«لا تقل هذا!وقل ذلك»، قاعدة بناء أسس التربية في أصغر اللبنات المجتمعية «العائلة»، دون الحاجة للتوجه لاستشاري السلوك، وأخصائي التنمية البشرية، ليكتفي الوالدان بتوجيه المقربين، والأجداد في إعانتهم على بناء المنظومة الفكرية التربوية الموروثة. ولكن ما تصار إليه الأمور اليوم، وفي ظل فقدان زمام الأمور في هذا المجال، لا يعني الانعزال، أو الحد من مجالات التطور التكنولوجي، وبخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكنه في الوقت نفسه يعتبر دعوة صريحة، لنشر «الثقافة المرقمنة»، وبخاصة في ظل التحولات العاجلة والمفاجئة الطارئة على العالم، ولا بد من الحديث على النطاق العالمي بعد ما يعيشه من انعدام الحدود المعرفية والفكرية والثقافية وحتى السلوكية.وفي الوقت الذي تطل براعم أجيالنا به من النافذة، محدقة بالغد، طامحةً لنهوض وازدهار خالٍ من ويلات الحروب، وهشاشة الجهل، وفيروس الفقر، تتصاعد أهمية العمل الجاد على إصلاح الأساس، فما بني على صواب فهو صواب، وليس أصح من مجتمع متماسك متعايش فاهم واعِ، ومتحد ومتشبث بقيم وحدته الوطنية، ومحصن ضد المحاولات المارقة عليه.
وفي السياق ذاته، فإننا نتحدث عن «المواطنة الرقمية»، على اعتبارها حاضنة محكمة للمعايير والأعراف المتبعة في السلوك السليم، والمسؤول في استخدام أحدث الأسلحة على الإطلاق «التكنولوجيا»، إذ أنها لا تبالي بهدف دون الفكر، والمنظومة الفكرية هي القاعدة الأساسية الحاكمة للأفراد على كافة النواحي. ويتحتم ذلك من خلال عدة عناصر أولها توفير المساحة الرقمية المتكافئة العادلة بين أفراد المجتمع الواحد من حيث موارده وآلياته، مما يحقق الوصول الرقمي للجميع في ذات النطاق. ناهيك عن أن امتلاك الأفراد أدوات استخدام المواقع الإلكترونية إذ أصبح التعامل الإلكتروني من أبرز الوسائل المساعدة في إنجاز ضرورات الحياة وتسهيلها وفي كافة المجالات.
وتتزايد ضرورة الوعي بمستلزمات هذه المرحلة من الناحية «الرقمية»، مما يؤول للتفكير الجاد بتعبيد الطريق الخالي من الشوائب والمعكرات، لفتح فضاء مفتوح للحوار وتبادل المعلومات والمعرفة والخبرات، ولذا لابد من تسهيل وتعميم الأدوات الدافعة بعملية تأهيل الأفراد باستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة، وما يدور حولها من معوقات وعقبات واقتراح حلولها، أي بمعنى آخر «محو الأمية الرقمية»، التي باتت لا تلتمس عذراً لأحد يجهل في «ألفبائيتها».
وفي السياق الذي تتكاتف به الجهود لإخراج تجارب وخطط استراتيجية، لتطبيق مواطنة رقمية دافعةً بنهضة الأوطان، لابد من تزويد المجتمعات بالقوانين الرقمية، والنماذج الحاكمة، للقيم والسلوكيات والإجراءات حسب قانون كل دولة، ومن ذلك ما بادرت به كعادتها دولة الإمارات العربية المتحدة بإعلان قانون تجريم الإرهاب الإلكتروني، بأشكاله كافة، بما فيه من محاولات التجنيد، أو الدعوة والتحريض على الإرهاب، وتجريم الإشادة به، وتمويله، وحالة عدم التبليغ عنه، كما تتصدى كافة الدعوات لطريق العنف والكراهية والتمييز العرقي والديني، والإساءة إلى الآخرين وإلى الأديان.
وتبرز ضرورة هذه الخطوات التي تعيها جيداً بعض الجهات المسؤولة بحق، مثل الكونجرس، كما أن البرلمان البريطاني عقد جلسة بغرض مسائلة مؤسس تطبيق «فيسبوك» مارك زوكربيرج حول خصوصية معلومات الأفراد، والتدقيق في بعض المعلومات والخصائص، المؤججة من خطاب الكراهية، والمغذية له. ولا بد من البدء بخطوات سبّاقة وجادة في هذا السياق، تمنع تكرار الحوادث والجرائم التي تستهلك قوى الرقمنة في بث الشيطنة وتأجيج النزاعات.
فالعالم اليوم وبعيداً عن أصحاب الأدمغة المجرثمة، يطمح لوأد كل صور الخراب والدمار وإعاثة الفساد، والاعتداء على العُزل والأبرياء - كما شهدنا في حادثة نيوزيلندا، وفرنسا مؤخراً -، ذلك وصولاً لبيئة إلكترونية رقمية آمنة، منظمة بقوانين وأخلاقيات صارمة، تنعكس على البنية الفكرية، والمجتمعية في قيمها، وتفتح مساراً جديداً ينهل بخيراته على العالم أجمع.