الفلسفة لا تُختصر في حب الحكمة وحسب، بلّ اشتغال العقل وإشغاله بالتفكير والنقد والشك وطرح الأسئلة التي سينبثق عنها المزيد من الأسئلة. وبهذه العملية يتم تطوير البنية التحتية للعقل والهروب الذي يعدّ خلاصًا خارج دائرة المسلّمات، وبأن هناك طريقًا واحدة يجب أن تسلك، وبأن الفكر والحكمة حكراً على البعض دون غيرهم، ولهذا عندما نريد أن ننتقص من قدر شخص ما في عالمنا العربي والإسلامي نصفه بأنه متفلسف أو منظّر، وهذا لجهلنا بأهمية الفلسفة ولتأسيسنا العقلي القائم على البعد التاريخي المجتمعي، ورفض شيوخ الدين علومَ الفلسفة في المجمل واستثناءات قليلة أسقط فيها الجانب الديني على الفكر الفلسفي المستساغ والمقبول نسبياً، وربط تقدم الأمم الأخرى بالتفوق التقني والمعرفي التجريبي والإنتاج الوفير دون معرفة البعد الفلسفي العميق خلف ما وصلوا إليه.
فجعل الفلسفة اللبنة الأولى في إطار لبنات الأخوّة الإنسانية وإعداد مجتمع يدرك ماهية الفلسفة ستكون نتائجه ملموسة في سلوك أفراد المجتمع، والذي وصلت سلوكياته ونظرته للآخر المختلف، أحياناً، لمرحلة الأزمة الحادة، والذي يعتبر من معوقات تقدم الأمة العربية، وستزداد المشكلة إذا استمرت نوعية القيادات المؤسسية في وطننا العربي اليوم مع وجود خلل في الأساس الداخلي لتلك القيادات، وبالتالي لن تنفع كل محاولات الإصلاح الخارجي كون العقل المتلّقي هو الورقة البيضاء التي لا قيمة لها دون أن نرى الحبر عليها، وهذا الحبر ليس له قيمة في ذاته ولا في الشخص الذي قام بالطباعة والتصميم، بلّ في الشخص الذي كان وراء تلك الحروف والتصوّر العقلي لفكرة أو طرح يتمتع بالأصالة وليس نسخاً للأفكار، ونتيجة لذلك لا ندرّس الفلسفة في مدارسنا وتغلق كليات الفلسفة في جامعاتنا، ولا توجد في الدول خطط لإنتاج الفلاسفة كالخطط التي توجد لتخريج المهندسين والأطباء، كما ونتجاهل العلوم العقلية والنفسية.
وأتساءل: هل المؤهلات العلمية ومصداقيتها ضرورة لجعل القائمين على نهوض الأمة وسيلة بناء وليس هدم؟ حتى وإن لم يكن للبعد الفلسفي والقيمي الإنساني لديهم دور حقيقي في ممارساتهم اليومية، وقيمة مضافة تنعكس في التوصيات والمشاريع والصفقات والخطط التي يوصون بها! أو القرارات التي يتخذونها وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؟!
فيجب عدم تضخيم دور علم على علم، فعلم الكلام يمكن اعتباره عصفاً ذهنياً فردياً وجماعياً، والجدل والنقاش الفلسفي ليس ترفاً أو مجرد هرطقات بلّ يعتبر من مقومات صناعة المجتمع الواعي. وبسبب غياب دور الفلسفة المعرفية في العالم الإسلامي تفاقمت ظاهرة كالإرهاب وتم ربطها بالدين الإسلامي. ولو كان للفلاسفة دور في المجتمع الإسلامي في وقتنا الحاضر، لسمع العالم منطقاً آخر يدافع فيه عن الدين الإسلامي بمنطق يقبله الآخرون. فكل الشواهد التاريخية توضّح دون أدنى شك بأن الإرهاب ظاهرة بشرية قديمة قدم البشر، ومن بين الأدلة على ذلك ما فعله الفاشيون اليابانيون في الحرب العالمية الثانية وارتكابهم المجازر بسبب معتقدهم بتفوق العرق الياباني وقتلهم في مدينة صينية واحدة فقط ما يقارب 300 ألف نسمة لكونهم مختلفين، وكيف تحوّل المجتمع الياباني من مجتمع يؤمن بتلك الممارسات إلى المجتمع الذي هو عليه اليوم هو دليل قاطع على أهمية الجذور الفلسفية للمجتمع، والتحول والتقدّم لذلك الشعب في فترة وجيزة يشار فيها إلى أخلاقه وقيمه بالبنان، وقسّ على ذلك دروس أخرى كثيرة من التاريخ.
ولضعف دور الفلسفة في عالمنا الإسلامي انتشر الإلحاد في العالم العربي، وانهزمت الأمة في كل حروبها مع الأعداء منذ القرن التاسع عشر، ولذلك صدق الإيمان وقوته وحده دون إشغال العقل لا يضمن النصر لأحد وما حدث للمسلمين في معركة أحد وهم من خيار أهل الأرض ليومنا هذا دليل على ذلك، والأمة العربية أمة فقيرة في التنظير والاختبار البرهاني، وبالرغم من كمية ما كتبت فقد كانت أغلب الكتابات عبارة عن شكوى وتذمر أو وصف لواقع، وأما التنظير فهو أن تضع نظرية تفسّر بها الأوضاع والأحداث وتخضعها بعد ذلك لمسارات من الاختبارات سواء كانت عقلية أو تجريبية، وهذا لا يحدث لدينا في الفضاء الفلسفي العربي.
فالعلم خاضع للنظرية، وتكمن المعضلة هنا في من يجهلون أن النظريات العلمية أساسها الفلسفة، وكل نظرية علمية تجريبية قامت على فلسفة كبرى وبناء معرفي نشأ على أثر تلك النظرية، ولا يوجد أي منطق خلف القرارات التي تحذف مادة الفلسفة والمنطق من الحقل التعليمي في بعض دول عالمنا العربي، وهل من يقومون بذلك مدركون لأسس بناء المعرفة؟ أم أن هناك أجندات أخرى تفوق إدراكنا!