الطغاة والمفسدون على مر التاريخ البشري، دأبوا على تصنيع مواطن من نوع خاص جداً، سموه (المواطن المستقر)، وأرادوها عكس المواطن المضطرب، والمكتفي عكس المحتاج. وكلمة (المستقر) فيها من السحر والجمال الكثير، بسبب ما تحيل إليه من معاني إنسانية واجتماعية تبعث على التأمل والشعور بالسعادة البالغة. والمواطن المستقر، كما يفترض، لا يشكو من شيء على الإطلاق، بعد أن يكون قد حصل على الضروريات كلها، ودخل الرخاء الأعلى في دائرة الكماليات والرفاه. لكن هذا المواطن المستقر هل هو مستقر فعلاً كما يُفهم.. هل هو كامل السويّة حقاً؟ سؤال تكمن إجابته لدى المفكر والقاضي الفرنسي (ايتيان دو لا بوسيه -1563م) مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، الذي يقول: (عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل، تنشأ أجيال لا تحتاج إلى الحرية، لأنها تتواءم مع الاستبداد، فيظهر في هذه المجتمعات نموذج بشري يطلق عليه.. المواطن المستقر).
إذاً، الاستقرار في بعض بلدان العالم الثالث، قد لا يعني دائماً التقدم، بل في كثير من الأحيان قد يعني عدم الحركة، وإن كان في الاستقرار من فائدة، فهو هنا يشبه الجري الذي يفيد لكن لا علاقة له بالتقدم. ولا نريد ضرب مثالٍ بمياه النهر التي إن لم تجرِ تصبح راكدة، وكل ما هو راكد هو آسنٌ بالضرورة، وفاقدٌ صلاحيته لاستخدام الإنسان والحيوان معاً.
في بعض الدول، التي باتت معروفة بالطغيان والفساد، جرى حصر اهتمامات مواطنها بأشياء ثلاثة (الدين، ولقمة العيش، وكرة القدم)، وعبر هذه الثلاثية شديدة الترابط جعلته لا يستطيع التفكير بأي شيء خارجها. ولعله من هنا يأتي ما يسميه المفكر (لا بوسيه)، (العبودية الطوعية). فثمة على سبيل المثال، من يحن إلى مستعمر الأمس احتجاجاً على واقعه المتعثر. في العبودية الطوعيّة يصبح الدين عند (المواطن المستقر) لا علاقة له بالحق والعدل، وإنما يصبح مجرد طقوس واستيفاء للشكل بعيداً عن السلوك الحسن، فالذين يمارسون الكذب والنفاق والرشوة، لا يحسون بالذنب إلاّ إذا فاتتهم إحدى الصلوات في المسجد أو الكنيسة، وهؤلاء لا يدافعون عن أوطانهم إلا إذا ضمنوا أنه لن يصيبهم أذى. وقد يصب أحدهم جام غضبه على ممارسة الفواحش لأنها ضد الأديان السماوية، لكنه لا يفتح فمه بكلمة واحدة مهما بلغ عدد القتلى في بلاده. أما لقمة العيش، الركن الثاني في حياة (المواطن المستقر)، فهو أن هذا (المواطن المستقر) لا يعبأ إطلاقاً بأي شيء من الواجبات الوطنية سوى بتربية أطفاله حتى يكبروا، فيزوج البنات ويشغّل الأبناء، ويجلس ينتظر حسن الخاتمة. وكرة القدم أو المصارعة والملاكمة، فهي الألعاب التي تنسيه همومه، وتحقق له العدالة، وتفرح قلبه وتشرح صدره. فهذه اللعبة - كرة القدم أو المصارعة والملاكمة - هي الوحيدة التي تخضع لقواعد واضحة وعادلة بالنسبة له، لأنها تطبق على جميع من في الملعب أو الحلبة.
(المواطن المستقر)، بالمعنى السلبي الوارد لدى (لا بوسيه)، هو العائق الحقيقي الأكبر أمام كل تقدم اجتماعي واقتصادي ممكن في بلاد العالم الثالث التي تأخرت كثيراً في مسار التنمية، وإنْ لم يخرج من عالمه الضيق، ويدرك ويتأكد أن السكوت على الفساد والقتل، أفدح بكثير من عواقب الانضمام إلى الثوار والمحتجين في شوارع بلاده، من أجل وطن أفضل ومستقبل آمن.