بعد حوالي ربع قرن من الصمت الإسرائيلي عادت قضية اغتيال الجنرال إسحق رابين للظهور بشدة ولتثير تساؤلات عن الدافع للقتل وعن المحرض والجاني. نعود للبداية، ففي الرابع من نوفمبر 1995 قام الشاب يجآل عامير باغتيال رئيس الوزراء رابين عقاباً له على توقيع اتفاقيات أوسلو مع الفلسطينيين. في حينها حكم على عامير بالسجن وأغلق الملف إلى أن فتحه من جديد فيلم إسرائيلي عنوانه «ياميم نورائيم» (أيام مرعبة).
نقطة التركيز الرئيسية في الفيلم تعلقت بالقواعد والتشريعات الدينية اليهودية التي يمكن أن تُحِل سفك دم الجنرال رابين والتي ظل الجاني (عامير) يبحث عنها لدى الحاخامات وفي الكتب الدينية اليهودية، ليستند إليها في قراره بتنفيذ القتل قبل أن يقْدم على ارتكاب جريمته. نفهم من هذا أن الشاب الجاني كان رافضاً لاتفاقيات أوسلو لكنه لم يكن مستعداً لتنفيذ الجريمة بلا سند ديني يبيح له قتل رابين دون أن يكون قد ارتكب معصية دينية!
وفي مقابل الفيلم الذي يشير إلى مسؤولية اليمين والحاخامات عن خلق أجواء التحريض التي أدت للجريمة، خرج أستاذ جامعي من المؤيدين بشدة لسياسات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتصريح معاكس يقول فيه إن المحرض على القتل كان قيادياً سياسياً علم أن رابين قرر التراجع عن اتفاقيات أوسلو ووجد الحل في قتله ليمنعه من تنفيذ قرار التراجع عن الاتفاقيات. لقد أثار التصريح ضجة إعلامية، لكنه سرعان ما تعرض للاستنكار والنفي من الجميع بمن فيهم اليمينيون.
لقد نشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» تقريراً عن الفيلم، استطلعت فيه رأي مستشار الفيلم، ويدعى «يهي شالوم»، وكان أحد زملاء يجآل عامير في جامعة بار إيلان، ولكنه من خلفية فكرية وسياسية علمانية ويسارية، أي مغايرة لخلفية الجاني الدينية.
قال مستشار الفيلم إنه لا يجب النظر للمجموعة التي كانت تحِل سفك دم رابين على أنهم مجموعة من المجانين، بل يجب التعمق في فهم دوافعهم، ويجب إدراك أن هناك أفكاراً دينية قد حركتهم. يرتب مستشار الفيلم على دعوته هذه المطالبة بمواجهة هذه الأفكار لتجنب تكرار مثل هذه الجريمة.
بالنسبة لي كمراقب عربي للساحة الإسرائيلية لم أجد جديداً في التطورات الأخيرة هذا العام، إلا فيما يتعلق بالكشف عن سند ديني إضافي اعتمد عليه الجاني عامير، بالإضافة إلى السندين اللذين ظهرا فور عملية الاغتيال، وكان أولهما فتوى «دين موسير»، أي حكم المفرّط في الأرض، وكان السند الثاني فتوى «دين روديف»، أي حكم الذي يعرض حياة يهودي للخطر. وكان الحاخامات يرون فيهما سنداً كافياً لإهدار دم رابين باعتبار أنه فرّط في الأرض بتسليم إجزاء من الضفة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وباعتبار أن ذلك يعرّض حياة اليهود للخطر بهذا الأمر.
لقد عاصرتُ شخصياً واقعة الاغتيال عام 1995 وتابعت الأجواء السابقة عليها والمحيطة بها واللاحقة لها على شاشات التلفزيون وصفحات الصحف الإسرائيلية، وكان نتنياهو يقود عملية التحريض السياسي ضد رابين، فيما كان الحاخامات المتطرفون يبحثون عن أسانيد دينية تحل سفك دمه عقاباً له على اتفاقيات «أوسلو» للسلام مع الفلسطينيين.