بعد أن وقفت الولايات المتحدة الأميركية بشدة ضد إصدار عملة «فيسبوك» الرقمية المقترحة «ليبرا»، ساد الاعتقاد بأن هذا التوجه قد طُوي دون رجعة، إلا أن الأسابيع الماضية بينت غير ذلك، إذ توجه مؤسس فيسبوك «مارك زوكربيرج» إلى سويسرا المركز المالي العالمي ورائدة الحسابات السرية في العالم والتي تستقطب نسبة كبيرة من رؤوس الأموال بكافة الطرق والأساليب.
جاء هذا التحول في «فيسبوك» بعد أن ضغطت الإدارة الأميركية على مؤسسات مالية عالمية كبيرة لوقف تعاملها ودعمها للعملة الرقمية المقترحة، مما أدى إلى انسحابهم تباعاً، فبعد انسحاب شركتي البطاقات المصرفية «فيزا» و«ماسترد كارد» انسحبت كل من خدمة الدفع «سترايب» ومنصة التجارة الإلكترونية «إيه باي»، إلا أن هذه الشركات تركت الباب مفتوحاً للمزيد من التقييم، مما يؤكد أنها تعمل على مواكبة التغيرات السريعة في مجال التعاملات المالية والنقدية الرقمية من جهة، ولعدم الاصطدام بسلطات تنظيم الأسواق، وبالأخص في واشنطن.
وإضافة إلى الولايات المتحدة، فقد انضمت الدول السبع الكبرى إلى التحذير من المخاطر التي يمكن أن تتسبب بها العملات الرقمية، وبالأخص إمكانيات استخدامها من قبل الدول المارقة ومنظمات الجريمة المنظمة وتجار المخدرات والمنظمات الإرهابية، إلا إن ذلك يعكس أيضاً حقيقة وجود صراع مصيري بين قوى مالية مهيمنة ومؤثرة وبين شركات التقنية والرقمية، التي برزت بقوة في السنوات الماضية، فعملة «ليبرا» الرقمية المقترحة والتي تصر «فيسبوك» على إصدارها منتصف العام القادم 2020 ستؤدي إلى إحداث ثورة في التعاملات المالية، بما في ذلك انتقال الأموال وعمليات الشراء والدفع عبر الأسواق الدولية، إذ سيتم ذلك خارج النظام المالي المتعارف عليه حالياً وبصورة أرخص وأكثر سهولة.
والحال أنه منذ الأزمة المالية في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي تراجعت حصة رأس المال الصناعي تدريجياً لصالح رأس المال  الذي يهيمن ويدير التعاملات المالية والنقدية الدولية ويوجه سياسات دول من خلال الضغوطات والعقوبات، كما يحدد ويوجه مسارات التنمية في العديد من البلدان باستخدام قوته المالية الهائلة، وهو ما أدى إلى تغيرات جيوسياسية مهمة في العديد من مناطق العالم.
هذه القوة المالية المهيمنة تواجه حالياً تحدياً حقيقياً من قبل الأدوات المالية الجديدة، بما فيها العملات الرقمية، والتي يصعب التحكم في مساراتها، كما هو الحال في الخدمات المالية التقليدية، فالتعاملات المالية الرقمية سيكون من الصعب مراقبتها وتوجيهها وفق سياسات المجمع المالي المهيمن في الوقت الحاضر، وهو ما سيفقده قوة التأثير في الأحداث، بما فيها التأثير في سياسات الدول واستخدام الأدوات المالية للضغط للحصول على تنازلات في المجالات الأخرى.
وفي الوقت نفسه، فإن انتشار استخدام العملات الرقمية سيُفقد المنظمات المالية والنقدية الدولية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي جزءاً من قوتهما وتأثيرهما في التعاملات المالية والنقدية، بما فيها استخدام عمليات التمويل لتحقيق مكاسب وتنفيذ سياسات اقتصادية تتناسب ومصالح القوى المالية المهيمنة، إذن يقف العالم أمام صراع حاسم سيستمر طويلاً، لأنه يطال ويهدد القوة الرئيسية للنظام الرأسمالي العالمي المتمثلة في قوة رأس المال، والذي سيقاوم بشتى الوسائل مسألة إمكانية إزاحته من عرش النظام المالي العالمي، الذي تربع عليه على مدى قرن كامل تقريباً.
هل يتمكن من ذلك؟ الأمر مشكوك فيه، التطور التقني والرقمي اكتسح ويكتسح كافة أشكال مقاومة العملات الرقمية، لأسباب عديدة، يأتي في مقدمتها سهولة الوصول إليه ورخص وسرعة الخدمات التي يقدمها، مما يجعل من مسألة تقبله والتعامل به مصلحة عامة للمجتمع وتطوراً طبيعياً ضمن تطور البشرية للأحسن والأفضل، لذلك ربما يلجأ رأس المال التقليدي في نهاية المطاف إلى البحث عن سبل تساومية مع المؤسسات الرقمية الجديدة، سواء من خلال مشاركتها في التقدم الرقمي أو من خلال شراء أصولها وإعادة هيكلة هيمنته على التعاملات المالية والنقدية -هذا هو الأمر الأقرب للواقع- إلا أنه حتى في هذه الحالة لن تكون له القوة الطاغية التي يتمتع بها حالياً، وسيفقد الكثير من قوته السابقة، كما ستدخل قوى جديدة وصاعدة ضمن هذا الصراع، مما يعني إعادة توزيع ميزان القوى المالي في العالم.
*مستشار وخبير اقتصادي