سؤال طرحه معظم الفلاسفة الغربيين الذين فكروا في كيفية المحافظة على أمن الدول، مستنبطين من فلسفاتهم النظرية تطبيقات عملية في الأخلاق والسياسة، أي في سلوك الأفراد والجماعات. وكانت الإجابة عندهم جميعاً، من اسبينوزا إلى كانط فهيجل.. تتجه للقول بأن سلامة الدول تقوم على أسس داخلية في بنيتها وليس على عوامل خارجية. فالدولة ككل، والجيش والشرطة وباقي الأجهزة أجزاء فيها لحفظ الأمن الداخلي والخارجي للبلاد. والأجزاء بطبيعتها أقل وأضعف من الكل حتى ولو بدت على غير ذلك، في حين أن الكل أقوى لأنه يضم الأفراد والجماعات (الأحزاب والنقابات والاتحادات والروابط ومنظمات المجتمع المدني.. إلخ).
إن الدولة في الغرب هي العلاقة بين السلطة والمجتمع، بين النظام السياسي والشعب، وهي تشبه السماء والشعب تحتها بمثابة الأرض. إن الدولة في الغرب هي قوة الفكر الذي فجّر الثورة الفرنسية بفضل المفكرين الأحرار، كما فجّر الثورة الأميركية. فبعد أن هزم نابليون ألمانيا في توسعه لنشر أفكار الثورة الفرنسية بالقوة، ووصل إلى حدود روسيا بعد عبوره جبال الألب، كتب فشته «نداءات إلى الأمة الألمانية»، مطالباً إياها بالصمود أمام نابليون. وبعد أن تحقق له ما أراد، قال نابليون قولته الشهيرة: «لقد هزم القلمُ السيف».
وكتب اسبينوزا، المفكر الهولندي وتلميذ ديكارت، في القرن السابع عشر، «رسالة في اللاهوت والسياسة» لإثبات أن حرية الفكر ليست خطراً على الإيمان ولا على سلامة الدولة، بل إن منع حرية الفكر يمثل تهديداً للإيمان ولسلامة المجتمع. إن سلامة هولندا، كما قال سبينوزا، تتحقق بمواطن هولندي حر في جمهورية هولندية حرة، وحكومة ديمقراطية تأتي بانتخابات حرة من الشعب.
ثم أتى كانط في القرن الثامن عشر، ليؤكد أن السلام الدائم بين الدول لا يتحقق إلا بخضوع السياسة للأخلاق، وليس بالمعاهدات السياسية بين الغالب والمغلوب، بل بالقيم الأخلاقية، وبتأسيس نظام ديمقراطي حر في كل دولة من دول الغرب.
وجاء هيجل، منظِّر الدولة الألمانية، مؤكداً أن الدولة تقوم على حرية الفرد، ونظام الأسرة، والعدالة الاجتماعية، وإرساء المساواة وحكم القانون.. حيث تخضع أجهزة الشرطة والجيش وسائر مؤسسات الأمن القومي لنظام الدولة وعلى رأسه المحكمة الدستورية العليا. فالدولة بالنسبة لهيجل هي «الروح في التاريخ»، حيث تقوم على حرية الفرد وديمقراطية الحكم (بتعبيرات جان جاك روسو)، لتصبح «دولة الحق»، والحق صفة من صفات الله تعالى، أو لتكون «دولة العدل»، والعدل هو الحق وهو كذلك اسم من أسماء الجلالة. لذلك جعل المعتزلة أول مبدأين في العقيدة: التوحيد والعدل.
كما تقوم الدولة في الفكر الغربي على حرية الفرد وحكم العقل، أي على كرامة الإنسان وحقه المطلق. وإن العدل فلسفياً هو تحقيق المطلق في الزمان والمكان، حيث يختفي الخوف والارتعاش، وتعود إلى المواطن الغربي ثقته بنفسه، وإلى السلطة اطمئنانها وسلامتها.
وهكذا تتأسس الحاكمية الديمقراطية في الدولة الغربية على مساندة الشعب وتأييده للسلطة، وعلى تحقيق السلطة مطالب الشعب، وعلى الثقة المتبادلة بين الطرفين.
وثمة شيء شبيه بهذا في مبحث «السياسة الشرعية» لدى المتكلمين المسلمين الأقدمين، والذين يتحدثون عن حقوق وواجبات متبادلة بين الجانبين في ميثاق أخلاقي أو دستور مكتوب يحفظ لكل طرف حقوقه وواجباته. وفي هذا الإطار تتحقق سلامة الدولة من خلال ما سموه «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، الأصل الخامس من أصول الدين عند المعتزلة. وهو أمر شبيه بالحوار المفتوح بين الطرفين في التجربة الغربية، من خلال الأحزاب ذات البرامج الانتخابية أو من خلال الحكومات الائتلافية التي تمثل إرادة الجميع.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة