شهدت العاصمة المصرية القاهرة الأسبوع الفائت لقاءً مهماً لغاية لما يعرف باسم «نواة مؤتمر ميونيخ للأمن»، ذلك المؤتمر الذي يعقد كل عام، لإعادة قراء المشهد الأمني حول الكرة الأرضية، ذاك الذي بات يتعرض لمخاطر جسيمة في الآونة الأخيرة من جراء تهديدات عدة، ففي الغرب تبدو التيارات «اليمينية» والقومية المغرقة في التعصب والتشدد من جهة، وفي الشرق تتصاعد وتيرة الأصوات الأصولية وأعمالها الإرهابية من جانب آخر.
لقاء القاهرة الأخير شارك فيه رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن «ولفجانج إيشينجر»، فضلاً عن وزراء خارجية ودفاع عدد من الدول العربة والأفريقية، بجانب السفراء الأجانب وممثلي السفارات والمنظمات الإقليمية والدولية المعتمدين في مصر. ما هو التساؤل الأكثر وقعاً، الذي تمت مناقشته في اللقاء الأخير؟
حكماً أنه ذاك المتعلق بمجابهة الإرهاب حول العالم، وبنوع خاص في منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى عدد من القضايا الفرعية والمهمة بدورها مثل الهجرة غير الشرعية وتغير المناخ، وجميعها في واقع الأمر تكاد تكون مثلث أضلاعه تمثل خوفاً على مستقبل البشرية.
الفكرة الرئيسة لمؤتمر ميونيخ منذ تأسيسه وحتى الساعة، هي النظر المستقبلي للأخطار المحدقة بعالمنا المعاصر، والتنبه بشدة إلى أن مسألة التقسيم الجغرافي والديموغرافي، بين عالم غني وآخر فقير، بين شمال مستقر وجنوب مضطرب، لن يقدر لها أن تبقى طويلاً، إذ سيدفع الجميع الثمن الفادح لما يجري حول العالم.
البداية يمكن النظر إليها من عند تغيرات المناخ، تلك التي تتسبب فيها القوى الصناعية الكبرى حول الكرة الأرضية، أولئك الذين يهتمون بتعظيم أرباحهم، حتى وإنْ أدى ذلك إلى اضطراب أحوال المناخ، وما بين الصين وأميركا من صراع تجاري وتنافس على قمة العالم مالياً واقتصاديا كفيل بإفساد مناخ الأرض.
غير أن الساعين إلى استخدام الكربون ينسون أو يتناسون أن الأرض باتت تتمرد وتتهيئ لما يسمى بـ«الانفجار الإيكولوجي»، أي البيئي، والذي نراه اليوم في صورة الأعاصير والجفاف والاحتباس الحراري، وجميعها تجعل مناطق من العالم غير قابلة للسكنى الأدمية، ما يدفع ساكنها للتحرك جهة المناطق التي تبدو اليوم أكثر استقراراً مناخياً، وأن لا يوجد من يؤكد هذه الاستمرارية، وعلى غير المصدق أن ينظر إلى أحوال الصيف الماضي في أوروبا.
من هنا تتوالد تيارات الهجرة غير الشرعية والكفيلة، بأن تغرق قارات بأكملها في طوفان بشري من الساعين إلى النجاة من هلاك البيئة، ما يفيد بأن الآخر سيدفع الثمن، ما لم يتم النظر إلى أمن العالم كوحدة واحدة، ومن دون تمايز طبقي أو نوعي. والشاهد أنه ما بين تغير المناخ العالمي، وتيارات الهجرة غير الشرعية، يجد الإرهاب الفرصة المناسبة والحواضن اللازمة ليولد من جديد وينتشر ويتوغل، ويبقى على البشرية أن تدفع الثمن من أمنها وأمانها.
يعن لنا أن نتساءل: هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن يعقد اللقاء الخاص بميونيخ في القاهرة على رمية حجر من القضاء على زعيم تنظيم «داعش» أبوبكر البغدادي على الحدود السورية التركية الأيام القليلة الماضية؟ ربما لا يهمنا الجواب بقدر ما تهمنا تبعاته، وقراءة سطور ما بعده، فالبغدادي هو تحصيل حاصل لغياب السلام، والسلام دالة للعدالة والإنصاف، ومع تواريهما سوف تبقى الفرصة سانحة لمولد ألف بغدادي وبغدادي.
يبقى الإرهاب في واقع الحال أحد أهم الارتكاسات البشرية الآنية، بمعنى أنه كلما يظن العالم أنه شفي من ذلك الطاعون، إذ به يعاود من جديد تهديد القاصي والداني، فقد خيل للعالم أن تنظيم «القاعدة» قد قضي عليه بعد التدخل الأميركي في أفغانستان عام 2001، إلا أننا رأينا «داعش» تولد من رحم «القاعدة» مرة أخرى، وبصورة أكثر دموية مما سبق. يتساءل الخبراء حول مراكز الدول الكبرى خلال الأسبوع الماضي: «هل موت البغدادي يعني نهاية تنظيم داعش؟». والجواب في واقع الأمر مؤلم، إذ يأتي بالنفي المطلق، ذلك أن «داعش» ومن لف لفها أضحت أفكاراً تطير حول عبر الأثير، والذئاب المنفردة لا تحتاج إلى تنظيمات هيراركية لكي تتلقى منها تعليمات بالعمليات الإرهابية، إنها جاهزة انطلاقاً من قناعاتها بصحة وجدوى ما تفعله.
قضية الإرهاب التي ناقشها خبراء نواة ميونيخ في القاهرة، باتت تستدعي علامة استفهام واضحة وتحتاج إلى جواب أشد وضوحاً:«هل هناك نوايا حقيقية لتصفية الإرهاب والقضاء عليه مرة وإلى الأبد، أم أن هناك من يعزف على المتناقضات ليستغل الإرهاب والإرهابيين كخناجر في خاصرة الأعداء القطبيين، حتى وان كلف العالم ذلك هدوءه وأمانه، وحوله إلى ساحة نار ومرار ودمار؟
في أعقاب اغتيال البغدادي خرجت علينا صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية بعنوان تصف فيه البغدادي بأنه «عالم دين إسلامي»؟!، ما يعني أنه لا يزال هناك من يربط بين الإسلام والإرهاب في توجه لا يغيب عن الأعين يقودنا من جديد إلى دائرة الإسلاموفوبيا.
الخلاصة.. من دون عدالة لا سلام.
*كاتب مصري