إن التعليم أساس كل رقي وطريق كل تقدم من بدء البشرية إلى نهايتها، ولهذا أمر الله تعالى به قبل أن يأمر بالعبادة أو غيرها، فأنزل أول ما أنزل من كتابه الكريم (اقرأ)، وبالإمساك بناصية العلم والمعرفة تدول الحضارات وتنتقل، فكلما تفوقت أمة على غيرها بالعلم ارتفع شأنها وقامت حضارتها، وعلا صيتُها، وتوجه الناس إليها.
ودولة الإمارات العربية المتحدة منذ أن وضع أساسها الأب المؤسس، المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، كان التعليم أحد أعمدة سياسته وحُكمه، فوضعَ العملية التعليمية نُصبَ عينيه، لتكون أساساً راسخاً في استراتيجية الدولة، وبلغ في ذلك شأواً بعيداً، وإن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، أيده الله، ومنذ عقود من السنين جعل التعليم والمعرفة من أولويات تفكيره وانشغالاته وأعماله، وبما آتاه الله من بصيرة وبُعد نظر وحكمة جعل للتعليم ثوابت راسخة، حتى يحقق المقصود منه، ويعود نفعاً وخيراً دائماً على الوطن ولأجيالٍ قادمة. ويمكنني التأكيد على ثلاثة ثوابت في التعليم تسير فيها الدولة، ويسهر عليها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد أيده الله وهي:
أولاً: ترسيخ الهوية الوطنية، فالتعليم الذي لا يخدم الهوية الوطنية وقيمها وأسسها سيكون تلقائياً خادماً لهوية أخرى عرف ذلك أصحابه أم لم يعرفوه. والتعليم الذي ينفق عليه الوطن الكثير من الجهد والمال والزمان والمكان، ولا يُظهر مكانة الوطن أو شخصيته، فهو خسارة مضاعفة وغُصة قاتلة وضياع لمقدرات الوطن، ويشمل ذلك كل أنواع التعليم ومستوياته.
والتعليم الذي يُبرز الهوية الوطنية سيكون دافعاً عظيماً للتفوق ومجداً عاجلاً وآجلاً للوطن وأبنائه ولأجياله اللاحقة، وكيف يُعرف العلم إلا بأهله؟ وهل يعرف أهله إلا بانتمائهم وهويتهم الوطنية التي ترفع رؤوسهم عالياً، ويعرفون رايتها خفاقة؟!
وإن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، أيده الله، بعمق رؤيته ودقة فكرته قد جعل من ثوابت التعليم الانطلاق من الهوية الوطنية لإبراز هذه الهوية ورفعة رايتها وعزتها، وقد أعطى الكثير من جهده ووقته وتفكيره ومناقشاته وسخائه المادي والمعنوي لترسيخ التعليم بكل أنواعه على هذا الأساس المكين والثابت الصلب ليكون عند الشباب والشابات دافعاً قوياً ومسؤولية كبيرة تقودهم إلى العطاء الذي يُفضي إلى التفوق والإبداع في كل لقاء علمي أو استقبال للشباب والمبدعين.
ومن لم يدرك ذلك من مسؤولي التعليم، أو سمح بالمؤثرات السلبية على الهوية الوطنية، فقد سار بعيداً عن الاستراتيجية الواضحة والطريق الصحيح، وسيكون لذلك آثار سيئة ضارة بالوطن وأبنائه ومستقبله وسمعته، ويُعيق حافر التفوق والإبداع، وهذا من أعظم الأخطار.
ثانياً: العمق في التخصص، وإننا نرى اليوم أن التعليم قد بدأ يتجه نحو الضحالة وعدم التعمق في كثير من جوانبه وأنواعه لعوامل كثيرة، وعندما تصبح المعرفة والتعليم معلومات ضحلة بشهادات عالية سينتج هذا أرباع متعلمين مشاغبين عابثين وليسوا علماء راسخين يصنعون أعظم الآثار، ويخلدون للوطن أهم أسس البقاء والرفعة والاستقرار، لأن عمق المعرفة دليل على قوة التفكير وهي طريق للابتكار.
وإن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، أيده الله، لا يريد جيلاً ضحلاً في معرفته أو محدوداً في ثقافته أو عابثاً في تصرفه، بل إنه يريد لأبناء هذا الوطن ذكوراً وإناثاً أن يكونوا مرجعيات راسخة، كل في تخصصه، نظرياً كان أو عملياً، وهداة للأجيال الحاضرة والآتية في طرائق تفكيرهم، يصنعون الأمجاد العلمية التي تؤسس لمجتمع منتج في كل نواحي الحياة. وهذا الثابت الثاني في استراتيجية دول الإمارات وفكر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، أيده الله، إنه في لقائه مع أبنائه وبناته المبتعثين خارج الدولة والدارسين داخل الدولة، وهو يمدهم بكل ما يحتاجونه في تحصيلهم يترجم حكمة الحكماء القائلة (لا يُسأل العالم كم بقي؟ ولكنه يُسأل كم أجاد وأفاد في عمله)، إنه حفظه الله يمدّ هؤلاء الشباب بكثير من الرعاية والعناية ليبلغوا من المعرفة عمقها ومداها، وهذا ما يميز هذا الوطن عما نراه اليوم من انحدار للتعليم على المستوى العالمي، جراء تسطيح المعرفة والقصور في التعمق في كثير من نواحيها، ولاسيما الدراسات الإنسانية والقانونية.
ثالثاً: الإشراف على المستقبل، وبهذين الثابتين السابقين تُطل دولة الإمارات العربية المتحدة بفكر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، أيده الله، على معرفة المستقبل واستشراف التطور المعرفي والدخول إليه بكل ثقة ومقدرة، فلم تحجز الأصالة والحفاظ على هوية الوطن وقيمه، عن التحديث ورؤية المستقبل العلمي على المستوى العالمي من خلال الطرق والمسالك التي سارت بها الدول والشعوب التي امتلكت الوسائل والأدوات، وقدمت كثيراً من الإبداعات، وإدراك تطور المعرفة وتوجهاتها المستقبلية، وهذا هو الثابت الثالث الذي جعله صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد أيده الله من عقود من السنين نُصب عينيه وسعى إليه بكل جهده وإمكاناته. فإذا رأيت سموه يقوم بزيارة خارجية، فاعلم أنه يريد أن يفتح للمستقبل طريقاً جديداً أمام الوطن وأبنائه باتفاقيات علمية وتبادل ثقافي وتعاون تكنولوجي، ولو أردت إحصاء ذلك لصعب علي لأنه كثير، إنه يعمل بالحكمة القائلة (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها).
إنه، أيده الله، يرى الوطن في سيرورته ومآلاته بعد عقود من السنين كيف سيكون أمام الأجيال القادمة التي عبَّد لها الطريق وسهّل لها الاستمرار في ذرى المجد والسؤدد، بعد أن أوصلها إليه ورفعها إلى قممه. وإن المستقبل لن تكون صدارته وقيادته إلا للذين يقتحمونه ويعيشونه، وإن (جامعة الشيخ محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي) نموذج واحد من عشرات النماذج لهذا التفكير المبدع للمستقبل، الذي يحفظ للوطن صدارته ويضمن لأبنائه انتماءهم واعتزازهم.
هذه الثوابت الثلاثة من أولويات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، أيده الله، وإنها فريدة في اجتماعها في بلد واحد في عالمنا المعاصر، وهي التي تصنع المستقبل المتوازن الآمن الذي يعلن بداية فجر حضارة جديدة، وقد بدأ فجرها من هنا. فمسؤولية أبناء الوطن كلهم والمنتمين إلى حقل التعليم والمعرفة خاصة أن يكونوا في هذا السياق المتفرد، فحفظ الله صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، وحفظ دولة الإمارات العربية نموذجاً عربياً لصناعة المستقبل المشرق المنير.
المستشار الدكتور/ فاروق محمود حمادة
*المستشار الديني بديوان ولي عهد أبوظبي