عندما أتينا إلى أبوظبي لحضور المنتدى السنوي لصحيفة «الاتحاد»، وكان موضوعه هذا العام «التسامح»، كان الحراك الشبابي اللبناني من أجل الإصلاح السياسي ومكافحة الفساد في بداياته. لقد كنتُ شديد التوجس أن يحدث ما لا تُحمدُ عقباه كما حدث للحراكات الشعبية العربية خلال العقدين الأخيرين في عدة دول، ومنها لبنان. كان التخوف ناجماً ليس من توقعات متشائمة من ردّ فعل السلطات وحسْب، بل وبالدرجة الأولى ما يمكن أن يصيب الحراك نتيجة التركيبة الطائفية للبنان، ونتيجة موجات الكراهية التي سبحت فيها وغاصت سائر الأطراف السياسية والثقافية خلال الأعوام الماضية. بيد أنّ الذي حدث خالف كل التوقعات، بل وفاق انتظارات أشدّ المتفائلين تفاؤلاً.
أكبر المفاجآت جاءت من الشبان أنفسهم. فقد انتشروا في سائر أنحاء البلاد، ومن كل الطوائف والجماعات، وهكذا بهبةٍ واحدة، وظننا أنّ الغضب هو الذي أخرج الجميع بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لكنّ الأبرز كان هذا الفرح المشبوب، وهذه الرغبة العارمة في التواصل والحياة.
أكبر التجمعات من حيث العدد كانت وما تزال في طرابلس، والتي جمعت كل شبان وشابات لبنان الشمالي. لقد صارت المدينة العريقة مضرب الأمثال على مدى أربعين عاماً، ومن دواخلها وأطرافها وطوائفها ومن الاستهدافات الخارجية. والذي جرى أنّ شبان شمال لبنان كانوا ممتلئين بفرح الحرية والتحرر. الحرية التي دفعت للتجمع الكبير، وليس في طرابلس وحسْب، بل وفي سائر البلدات التابعة لها. وفي غمرة الغضب والفرح، تغلَّب على الجميع هَمُّ رفاقهم الذين يتعرضون للضرب والملاحقة والشيطنة في صور والنبطية وكفر رمان بجنوب لنبان. رفعوا شعارات التضامُن معهم، ودعوا للتواصُل وصنع كل شيء لتسلم لإخوتهم حريتهم، كما حصلت طرابلس أخيراً على حريتها.
أما التحرر فكان داخلياً تماماً. ما تحرر شبان طرابلس والشمال من ضغوط الكراهية الهائلة التي كانت مسلَّطة عليهم طوال عقودٍ فقط، بل تحرروا أيضاً من أوهام الأحقاد التي سادت الصفوف، وقسمت الشوارع والأحياء، إلى جماعات متناحرة يرهقها إحساس المؤامرة من «العدو» القريب الموهوم، قبل العدوّ البعيد المتربص. هذه هي طرابلس الجديدة الجديدة، التي كان وزير دفاعنا العظيم قد زارها قبل شهورٍ زاعماً أنها حاضنةٌ للإرهاب!
أما النقطة البارزة الثانية في حراك لبنان فهي حراك جلّ الديب والذوق ومزرعة يشوع، وسائر مناطق المتن الشمالي وكسروان. فالشبان هناك والشابات قيل لهم طوال عقدين إنّ المسلمين أكلوا حقوقهم، ويريدون تهجيرهم وإخراجهم من وطنهم بالكثرة العددية والعنف! لقد تبين للجميع وبسرعة البرق أنّ هؤلاء الشباب ما صدّقوا شيئاً مما قيل لهم. بل اعتبروه تزويراً وبهتاناً لإفقادهم مواطنتهم وعلاقاتهم مع شبان المسلمين وعامتهم من الجنوب إلى بيروت وصيدا وطرابلس والبقاع. خرجوا ليقولوا لدُعاة الكراهية إنهم مواطنون لبنانيون، ويريدون البقاء كذلك، بسواعدهم وأصواتهم وعملهم. كلهم طلاب جامعات وأساتذة ومدرسون ومثقفون، وكلهم يعرفون حياة العالم المعاصر، ولا يريدون أن يوضعوا في غيتو موهوم وخائف من جوارهم.
رأى كثيرون منا جنوبيين يأتون إلى بيروت في ساحتي الشهداء ورياض الصلح. ثم هم يظهرون في جل الديب وفي الذوق وفي طرابلس. ظنناهم في الأيام الأولى «ثوريين محترفين»، لكننا عرفنا خلال أيام ٍ قليلةٍ أنهم شبان وفتيان ينزلون إلى الشارع لأول مرة، ويريدون ببساطة التعرف على رفاقٍ لهم لم يروهم ولم يلتقوا بهم من قبل! هو الشوق العارم للتواصل والاندماج.
شبان الجنوب اللبناني الذين حاصرتهم الحزبيات الثأرية، فاقوا الجميع ليس بالشجاعة فقط، بل وبالوعي القوي أيضاً.
لقد عرف لبنان من قبل حراكات متحررة من التطييف والتحزب. لكنها ما كانت أبداً بهذا الوعي، وهذا الانتشار، وبهذه الثقة بالنفس وبالوطن.
كل المراقبين يتساءلون: وماذا بعد؟ فالمصالح المستقرة والغائرة، والميليشيا المسلَّحة، والطبقة السياسية المتحاصصة، كلُّ ذلك يشكّل عقبات كأداء أمام الحشود الطامحة للحرية والكرامة والدولة النظيفة والخالية من السموم. والذي أراه أنّ ما حصل حتى الآن كاف لنقل لبنان مرةً واحدةً إلى أفقٍ جديدٍ وواعد. فهؤلاء هم شباب لبنان والمستقبل لهم.

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت