المعركة الطويلة بين واشنطن وقاعدة مؤيدي ترامب، بشأن السياسة الخارجية أخذت منعطفاً محورياً في الأيام القليلة الماضية، حين اعترف الرئيس دونالد ترامب بأنه يعطي الأولوية لحشد أنصاره على مسؤوليه والحزب «الجمهوري»، حين يتخذ قرارات مهمة في الأمن القومي، وفي العام المقبل، سيتبع ترامب الجمهور وليس النخبة، فالرئيس كان على أوضح ما يكون في تصريحاته أمام اجتماع مجلس الوزراء، يوم الاثنين الماضي، حين دافع عن قراره بشأن سحب القوات الأميركية من سوريا، مشيراً إلى رد فعل الجمهور أثناء اجتماع حاشد في دالاس قبل ذلك بأيام.
فقد ذكر ترامب، أنه حصل «على أكبر هتاف في تلك الليلة على أمرين، وهما أننا نبني الجدار وهذا رقم واحد، ورقم اثنان وهو ربما مرتبط برقم واحد وهو أننا نعيد جنودنا إلى الديار، لقد كان هذا أكبر هتاف في دالاس، وحين قلت إننا أعدنا جنودنا إلى الديار عمت البهجة المكان». وتحدث ترامب، عن عدة أمور تتعلق بسوريا، كثير منها مبالغ فيه ومضلل وكاذب، أولها أن القوات لن تعود إلى الديار، بل ستذهب إلى العراق، وهناك آلاف آخرون يتوجهون إلى مناطق أخرى، وذكر أن وقف إطلاق النار صامد، فيما يناقض ما قاله أحد مسؤوليه في الميدان، وذكر أن الأكراد يتوجهون إلى مناطق أكثر أمناً، بينما لا يريد الأكراد في الواقع مغادرة ديارهم، كي لا يسهلوا مهمة تركيا في إعادة توطين ملايين اللاجئين هناك، ونسب لنفسه الفضل في إلحاق الهزيمة بداعش «في نحو شهر ونصف».
وكان أكثر الأجزاء إخلاصاً من مناورة ترامب في سوريا، هو الفكرة التي عاد إليها مراراً، وهي أنه اُنتخب لإنهاء الحروب التي بلا نهاية، وهي الفكرة التي تروق مؤيديه بشدة، وأن خبراء واشنطن لا يدركون ما يقولونه، وأكد ترامب قائلاً: «راقبت هؤلاء الخبراء الذين يعملون على هذا الأمر منذ 20 عاماً، إنهم لا يعرفون ما يصنعونه، ويخبرونني بما يجب أن أفعله، وهناك بعض الناس بدأوا يقولون الآن إن ما يفعله ترامب عظيم». ترامب يفخر وكفى برفض النصيحة في السياسة الخارجية من زعماء الحزب «الجمهوري»، مثل نصيحة «ميتش ماكونيل»، زعيم الأغلبية «الجمهورية» في مجلس الشيوخ، الذي كتب في الأيام القليلة الماضية مقالاً في «واشنطن بوست»، بعنوان «فداحة خطأ الانسحاب من سوريا».
وأخبرني عدد من المسؤولين، أن ترامب توقف عن طلب، ناهيك عن اتباع، نصيحة قطاعات واسعة من بيروقراطية الأمن القومي حين يتخذ قرارات، وهذا هو ما يجعل «البنتاجون» يسعى جاهداً لوضع خطط لانسحاب سريع للقوات الأميركية من أفغانستان، تحسباً لأن يباغت ترامب الجيش بقرارات مفاجئة، وبعد ما حدث في سوريا توصل الجميع في النظام إلى أن الرئيس يتخذ القرارات المتعلقة بالأمن القومي بناء على حساباته المتعلقة بإعادة انتخابه عام 2020.
ودافع «مايك مولفاني»، كبير موظفي البيت الأبيض بالنيابة، عن تأثير الحياة السياسية على الأمن القومي في الأيام القليلة الماضية، وأعلن قائلاً: إنه «سيكون هناك تأثير للحياة السياسية على السياسة الخارجية»، مدافعاً عن قرار ترامب، منع المساعدات عن أوكرانيا حتى تحقق مع خصومه السياسيين.
صحيح أن الحياة السياسية تؤثر دوماً على السياسة الخارجية، لكن إعطاء أولوية للحياة السياسية على الأمن القومي عادة ما يكون أمراً سيئاً، وتنفيه الإدارات أو على الأقل تشعر بالحرج منه، ففي عام 2011، حين كان أوباما يخوض حملة إعادة انتخابه، تباهى البيت الأبيض بسحب القوات الأميركية من العراق، باعتباره أحد وعود حملته الانتخابية، وجميعنا يعلم ما حدث لاحقاً، فقد أقامت «داعش» منطقة خاضعة لسيطرتها، واضطر أوباما إلى إرسال قوات للتصدي لـ«داعش».

وانتقد ترامب هذا الخطأ لكنه يكرره في سوريا، صحيح أن التورط العسكري في سوريا لا يحظى بتأييد شعبي، لكن القيام بأمور لا تحظى بشعبية للحفاظ على سلامة أميركا ليس واجباً على كل رئيس فحسب، بل يمثل أيضاً جزءاً من تعريف القيادة، فقد أعلن ترامب يوم الاثنين الماضي قائلاً: «سأنفذ ما انتخبت من أجله، وسأفعل ما أرى أنه صحيح»، وأفراد الجمهور لديهم مظالم مشروعة، والنخب ارتكبت أخطاء فادحة في الشرق الأوسط وفي مناطق أخرى. وفيما يتعلق بسوريا، فإن النخب على صواب والعامة على خطأ، لكن ترامب اختار، والآن يتعين علينا أن نرى ما سيبدو عليه الشرق الأوسط حقاً دون القيادة الأميركية، وعلى مدار العام المقبل، توقعوا أن يكون لحسابات ترامب السياسية تأثير أكبر على السياسة الخارجية في الصين وكوريا الشمالية وأفغانستان، وجمهور مؤيديه سيروقهم هذا، إلى أن تعود العواقب الحقيقية لقراراته البائسة إلينا وتطاردنا.

*كاتب أميركي متخصص في شؤون السياسة الخارجية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»