يتواصل خروج مئات الآلاف من اللبنانيين للأسبوع الثاني إلى الشوارع والميادين، للتعبير عن غضبهم تجاه إجراءات التقشف التي تنتهجها الحكومة، متَّهِمين النخبة السياسية بالفساد والمحسوبية، حيث يعاني الاقتصاد اللبناني من ركود تام في ظل تحسن طفيف جداً في معدل النمو وارتفاع المديونية العامة للبلاد.
ما حدث ويحدث في لبنان حالياً أمر غير مسبوق في تاريخ هذا البلد، فقد نزل مئات الآلاف محتجين، وهناك تقارير تذكر أن مليوناً من البشر قد نزلوا للساحات الرئيسة في كل مناطق لبنان رافعين الأعلام الوطنية في تظاهرات سلمية جميلة أدت إلى شل الحياة في هذا البلد الجميل.
المتظاهرون لديهم الاستعداد للاستمرار في تحركاتهم وقد حددوا سقف مطالبهم برحيل الحكومة وإعادة النظر بالتركيبة السياسية التي أوصلت البلاد إلى حال من الاهتراء والتحلل.
ومن الملاحظ في تظاهرات لبنان غياب الشعارات الحزبية السياسية واكتفاء المتظاهرين برفع علم لبنان كدليل على وحدة الصف اللبناني، وتعبيراً عن رفضهم للشعارات الطائفية والحزبية وغيرها.
التحرك الشعبي اللبناني هو المخرج الوحيد لمعالجة حالة الاستعصاء التي علَق به لبنان عقوداً طويلة، ولعل الثمن الذي سيدفعه الشعب اللبناني لاحتجاجاته الحالية، مهما كان ثمناً كبيراً، يبقى أقل من الخسائر التي يدفعها كثمن متواصل للفساد والمحسوبية ونهب الثروات الوطنية اللبنانية.
والحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع في هذا الخصوص هي أن لبنان الذي يعاني من انقسامات طائفية وإثنية ومناطقية.. رفضت طوائفه من سنة وشيعة ودروز ومسيحيين وغيرهم، استمرار الحكم الحالي للحفاظ على مكتسبات بعض الزعامات الطائفية. ومن الواضح أن الشباب اللبناني في وقتنا الحالي يطمحون إلى دولة عصرية ديمقراطية ومدنية، عمادها الدستور والقانون، تحافظ على مبدأ الحريات وتكافؤ الفرص للجميع، بعيداً عن المحاصصة الطائفية السياسية البغيضة.
ولعله من الأسئلة التي يتعين طرحها الآن: ما مستقبل لبنان؟ وهل هناك إمكانية للتغيير السلمي الديمقراطي السليم؟ وهل سيتنازل حكام الطوائف والأقليات عن امتيازاتهم التي يملكونها منذ استقلال لبنان عام 1943؟
من الصعب التكهن بمستقبل لبنان، لكن الأمر المؤكد هو أن الشباب اللبناني رفض الإصلاحات الاقتصادية التي طرحها رئيس الوزراء لنزع فتيل الأزمة ومحاولة تهدئة أكبر احتجاجات تشهدها البلاد منذ عدة سنوات. لم يقتنع المنتفضون بإعلان الحكومة عن إلغاء الضرائب الجديدة، وخفض رواتب الوزراء والنواب وكبار المسؤولين إلى النصف. إنهم يريدون تغييرات جذرية في طبيعة نظام الحكم. ورغم اعتقادهم بمشروعية هذا المطلب، إلا أنه من الصعب تحقيقه في ظل الحالة اللبنانية. لكن ثمة مؤشرات محلية ودولية ذات طابع إيجابي، منها مثلاً إعلان الجيش اللبناني تضامنه مع المتظاهرين، رغم تهديدات «حزب الله» لمن قرروا النزول إلى الشارع. وكذلك إعلان البطريرك الماروني في لبنان بشارة بطرس الراعي تضامن الكنيسة مع الانتفاضة الشعبية السلمية، معتبراً أن الواقع الحالي يفرض على الجميع التوقف أمامه ومعالجة أسبابه، داعياً الحكومة إلى الاستجابة لمطالب الشعب.
أتمنى أن ينجح اللبنانيون في تجاوز أزماتهم، والشعب اللبناني من حقه أن يقرر ما يراه لصالح حاضره ومستقبله.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة الكويت