سبق للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، المساهمة في رسم أبرز الخطوات الدافعة بتحقيق خيرية البشرية، ومن ذلك «إعلان القاهرة»، و«ميثاق الإفتاء العالمي»، لتتوج جهودها مؤخراً بإطلاق «وثيقة التسامح الفقهي والإفتائي»، إنفاذاً لأهداف مؤتمرها الخامس الذي انعقد تحت عنوان «الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي»، إذ يتم تقديم الإنجازات الواعية التي تراعي الظرفية الزمكانية، ذلك أن الحالة الحضارية والثقافية للمجتمعات المعاصرة، وما شابها من تأرجح بين الانضباط والفوضى، والتجديد والتقليد، والتقدم والتأخر.. وغيرها الكثير من التحولات، أثرت بشكل مباشر على الشأن الفقهي والإفتائي في العالم الإسلامي، فزادت من حدة التعسف في إلقاء الأحكام، وتأجيج الكراهية والميل إلى العزلة المشحونة بعدم التقبل، وضاعفت من الحاجة لتقديم الواجب حلاً لما يواجهه العالم الإسلامي من موجة تعصب مذهبي يهدد من تماسك اللحمة المجتمعية والوطنية، وضاعفت من المحاولات المتكررة لجعل محاور الاختلاف الفقهي بؤرة بث للكراهية وتغذية التطرف.
وكما سعت هذه الوثيقة لخلق تجربة استثمار فكري، تسهم في التقدم القانوني والاجتماعي والأخلاقي، وتمتح من معين الخبرات المذهبية على اختلافها.
وفي عرض للقيم التي بنيت عليها، أشارت الوثيقة إلى جعل قيم «الميثاق العالمي للفتوى» أساساً لبنائها ذلك، وقد ضمت بين طياتها العديد من القيم التي تشكل مجتمعةً بناءً رصيناً لمنظومة تسامح عالمية، حيث بدأت بقيمة الرحمة، العاملة على تعزيز تقدير الاجتماع الإنساني بوصفه أحد أبرز احتياجاتها، إضافةً للسعي لمعالجة المشكلات المعاصرة، كما تستدعي شمول التسامح للخلاف في الأصول والفروع، ونبذ التعصب، وكذلك مراعاة حال الأقليات المسلمة.
كما دعت الوثيقة إلى الالتزام بالأمانة والمسؤولية، في حفظ التراث الفقهي والإفتائي، من خلال فهمه بشكل سليم وتحديد ما يُعتَمَد منه في عصرنا، واستثمار مادته الغنية، للارتقاء بالمجتمعات الإنسانية، ولمواجهة ما يعترضها من تحديات على رأسها التعصب والتطرف.
كما حثت وثيقة التسامح الفقهي والإفتائي على تقدير العلم والعلماء، من خلال الاعتداد بالمذاهب ومصادرها الأصلية والفرعية، واحترام العلماء المعتمدين فيها، وحسن الظن بهم، إضافةً لضرورة احترام المؤسسات العلمية للمذاهب دون تحيز أو تمييز، واتباع المعارف والعلوم المعنية بإدارة الخلاف.
وحمايةً للمستفتي وللمجتمع من الآراء الشاذة والأفكار الشاردة، فقد دعت الوثيقة للتخصصية، والتعايش السلمي الذي بدوره يعتبر فيصلاً بين الاختلاف والخلاف المذهبي، وبوصلةً لإدارته ومنبراً لبث أخلاقياته، ودافعاً بالرقي الإنساني، وداعياً للاعتداد بالمواثيق والمعاهدات الدولية المتفق عليها.
كما دعت الوثيقة للالتزام بالوسطية، من خلال التيسير ورعاية المصالح ومراعاة المقاصد وإدراك الواقع، وغرس روح الانتماء الوطني، ونبذ التعصب، ومراعاة حاجة الأقليات، إضافةً للحفاظ على الهوية.. وهي تستدعي تقديراً للتنوع الثقافي، وإذكاءً للولاء للوطن، وحفظاً للتراث الإسلامي.. وبلا شك فإن الوثيقة لم تنس الإشارة لضرورة احترام الخصوصيَّة، وتشجيع الاجتهاد والتجديد، من خلال استثمار الاختلاف في تجديد الخطاب الديني، واستثماره في الرقي الإنساني، مع مراعاة المواثيق الدولية المتفق عليها والاستفادة من مبادئها العامة عند الاختيار الفقهي والإفتائي مع النظر الواعي للمقاصد وفقه الواقع وترتيب الأولويات.
أما عن مبادئ الوثيقة، فقد ضمت 23 مبدأً، في تعزيز قيم التسامح والتعايش انطلاقاً من قبول سنّة الله في وجود «ثروة الاختلاف» واحترام أخلاقيات التعامل معها، ومن ضرورة اتباع الإدارة الحضارية سعياً لتجديد الخطاب الديني والرقي به، إضافة للزوم مراعاة مقاصد الشريعة لفهم وترتيب الأولويات، وصولاً لأفضل إدارة للاختلاف. فالإسلام دين إلهي جامع ولا يمكن أن يكون حكراً على شخص أو فئة.. وغير ذلك من المبادئ الجوهرية التي لا يخرج أحدها عن سياق المساهمة الفاعلة في تعزيز قيم التسامح والتعايش، وصولاً لاستثمار الخلاف الفقهي في كافة عصوره، وتحقيقاً لإدارة حضارية مثلى للخلاف الفقهي كقوة داعمة لاستقرار الدول وتعايش الشعوب.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة