القوة الناعمة هي القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الجذب والإقناع والتأثير، والنجاح في جعل الآخرين يتبنون أفكارك وقيمك ومبادئك أو ينظرون بإعجاب كبير، وإلى نظرتك للحاضر والمستقبل، وجعلهم في حاجة دائمة لما تنتج من الجوانب المادية وغير المادية، ومنبهرين بثقافتك ومجتمعك وأسلوب حياتك، وأن تكون أنت من وجهة نظرهم المعيار لقياس تقدّم وتطور وتحضّر المجتمعات الحديثة، وتلميع ماضيك الحضاري قبل حاضرك، وإبراز رموزك ومعالمك المهمة في كل المجالات، وذلك بدلاً من التهديد والإكراه وفرض السيطرة باستخدام القوة.
لقد كان انفجار ثورة المعلومات في العقد الماضي ذا طابع خاص لا مركزي، وكانت له آثار واقعية ومحتملة على حياة المجتمع بصورة عامة، وتفاعله اليومي مع العالم والأطر الدولية الحاكمة التي تخضع لها الدول ودرجة الهيمنة المعلوماتية التي تقبل بها وتفرض عليها، ومدى اعتماد السكان وكل مكونات الدول على تدفق وانسيابية المعلومات الآمنة وصحتها وجودتها، والقدرة على تحويلها إلى مصدر معرفة أو قوة، ومدى الجاهزية للعيش بالحد الأدنى منها، وهل يعتبر المجتمع مصدراً أصيلا لتلك المعلومات أو شريكاً في صناعتها، أم فقط مستخدماً ومستهلكاً لها؟!
ففي عصر العولمة أصبح للدول المعلوماتية الرائدة ميزة تمكّنها من العمل بشكل انفرادي وفقاً لمصالحها، وتوظيف الموارد الوطنية التي يمكن أن تؤدي إلى قدرة أي بلد على التأثير على الآخرين من خلال الوسائل المعلوماتية المشتركة لصياغة جدول أعماله الوطني، وإحداث استقطاب منتظم من أجل الحصول على نتائج مفضّلة وجذب الشعوب لنمط حياته، وذلك بغض النظر عن عوامل الجذب والقبول ورغبة الناس في أن ترتبط وجدانياً مع الأقوى والأكثر تأثيراً، كطبيعة وسلوك موروثين يشكّلان أرضية خصبة للعقل البشري والوجدان الإنساني. إن ذلك هو جوهر تشكيل البناء الداخلي للقوة الناعمة قبل أن تخرج للعالم الخارجي، ولذلك فالدول التي تريد أن يكون لها حضور لافت للنظر من حيث استخدامات وتأثيرات قوتها الناعمة المرتبطة بالمعلومات والبيانات، لابدّ أن تؤسس لبنية تقنية تنافس أفضل نظيراتها في العالم أولاً، وأن تكون القوة القسرية خياراً متاحاً لها وهي حرمان أو منع جهة ما من مكافأة أو كسب أو مصلحة محددة أو إزالة شيء ما من دولة أو معاقبتها لعدم خضوعها لاحتياجات أو طلبات الدولة ذات المصلحة المهيمنة في مجال ما، ثانياً.
وهنالك دور أيضاً لقواعد البيانات في حياة أفراد المجتمعات، وكيف تعكس قوة العلامة التجارية الوطنية وسعادة المجتمع والثقة في تدابير الحكومات، والرضا عن أداء الحكومة والإجراءات التي تقود للرفاه والصحة النفسية والعقلية والجسدية، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر كنسبة مئوية من رأس المال الإجمالي الثابت وعدد الخبراء والمستشارين المحليين، وازدهار المجتمع المدني ومؤسساته، والعديد من العناصر التي تلعب المعلومات الموثّقة دوراً محورياً في تأصيلها ونشرها وتحقيق الأهداف الموضوعة لها وإيصالها للعالمية.
ويتوقع فيما هو قادم التنافس الشرس بين الجهات الحكومية الفاعلة والجهات غير الحكومية، وحتى الأفراد الذين يثق بهم الجمهور ويتقبلهم، وستدخل الحكومات كلاعب رئيسي غير مباشر في تلك الساحة من خلال موظفيها الذين سيعملون دون مكاتب أو وصف وظيفي مكتوب أو ساعات عمل محددة، وسيصبح المجال السيبراني المجال الأبعد لحدود أية دولة، وسيعتمد النصر في بعض الأحيان ليس على الجيش الذي يفوز، بل على القصة والفيديو أو البث أو الرسالة الأكثر انتشاراً ومتابعةً على وسائل التواصل الاجتماعي، وسيكون إنتاج الإعجاب في العالم الافتراضي مجال تنافس محموم.
وبما أن القوة الناعمة تجعل الآخرين يريدون ما تريده أنت، فهل يمكن للأفكار والثقافة والترويج لنمط حياة معين أن يحقق النصر لدولة ما في حرب باردة، أو أن يحبط إرادة أمة دون إطلاق رصاصة واحدة؟!
التاريخ يقول لنا إن الإجابة هي نعم! وقد يكون النجاح الأميركي في الصراع مع الاتحاد السوفييتي السابق خير شاهد على ذلك، وما يقال إن دولة منافسة لأميركا فعلته أثناء الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016، وتلطيخ العملية الديمقراطية الأميركية وتشويه سمعتها، واهتزاز الثقة في السياسات الداخلية للديمقراطيات الأوروبية للحدّ من جاذبيتها وجاذبية حلف «الناتو».. ما هو سوى تجسيد للقوة الناعمة، وللكيفية التي تتحول بها إلى قوة فاعلة دون استخدام وسائل القوة الصلبة. وقد يحدث الجمع بين القوتين لتشكلا قوة ذكية، وبالتالي هي القوة المتحوّلة القسرية التي تنقل القوة الناعمة إلى قوة صلبة دون الدمج بينهما، ودون استخدام وسائل القوة المادية، وخاصةً في ظل إنشاء الأخبار المزيفة والترويج لها بوساطة المتصيدين المدفوعين والروبوتات الميكانيكية، بالإضافة إلى أبواق الدبلوماسية العامة لتوليد معلومات خاطئة يمكن تعميمها وإضفاء الشرعية عليها فيما بعد كما لو كانت صحيحة.