وها هو لبنان يلهب شعبُه الساحات والشوارع بالمظاهرات ليلتحق بالعراق الذي ما زال أهله في توجس من عودةٍ أقوى للمظاهرات. فهل التشابه بين الحدثين في بيروت وبغداد يعني التشابه بين أسبابهما؟ محللون كثر يقولون إن ثمة تشابهاً في العوامل دفع الناس إلى الحركة والتعبير. وفي الغالب الأعم هناك روابط أيضاً، فما هي تلك الروابط؟ هناك من يشير إلى أن التدخل الضاغط من بعض بلدان الإقليم (غير العربية) هو الذي يشكل الرابط الأبرز بين الأحداث في البلدين. فإذا كان شعار المظاهرات في العراق يطالب تلك البلدان بالرحيل، فإن الشعار يكاد يكون ذاته في لبنان وإن بمعنى أكثر تفصيلاً (ارحلوا..)، ويقصدون الساسة الفاسدين بذلك.
إنها أسئلة قد يجد البعض أن الإجابة عنها سهلة لا تحتاج جهداً أو تفكيراً، فنوع الحياة في البلدين، ومستوى معيشة الناس، عاملان ينطقان عن نفسيهما بوضوحٍ. والبعض الآخر يجد أن الوصول إلى إجابة شافية مفصلة عن تلك الأسئلة، صعب من دون العودة إلى التاريخ لمعرفة جذر المشكلات القائمة في البلدين، والتي ستظل كامنة متربصة بعيش الناس طالما بقي الساسة عاجزين عن إيجاد الحلول الناجعة. إن العجز الواضح للساسة في البلدين، بحسب وصف المحللين، أمر واقع لا يحتاج إلى دفاع أو مواربة، فالعراقيون واللبنانيون بعد كفاحهم ونضالهم بشتى الطرق والسبل، لكي ينعموا بوطن نظيف وعيش كريم، تتم مكافأتهم في نهاية المطاف بساسة عاجزين يقبرون أحلامهم ويحبطون تطلعاتهم إلى غد أفضل لأبنائهم.
إن الدول الحديثة والعصرية لا يسعدها كثيراً دخلها القومي الضروري، بقدر ما تسعدها رؤية شعبها مرفهاً ومبتهجاً بالحياة، فسعادة الشعوب لم تكن يوماً مرتبطة بالدخل المالي لدولها. إن جل من هم في سدة الحكم في بلدين عربيين مثل العراق ولبنان، كانوا قد عاشوا ودرسوا في دول غربية حديثة ومتقدمة، مثّلت تجاربها ومنعطفاتها الاجتماعية درساً عميقاً لهم في بناء الدول وديمقراطيتها القائمة بالضرورة على احترام رأي الشعوب. لكن للأسف الشديد وجدنا أن أغلب هؤلاء الذين حين حكموا في بلدانهم كانوا أقرب إلى مستبدي العالم الثالث كما وردت صفاتهم في كتاب «طبائع الاستبداد» لعبدالرحمن الكواكبي. إن الهم الأساسي لكثير من المسؤولين والساسة في العراق ولبنان هو تعظيم ثرواتهم الخاصة بنهب موارد البلاد.
ومن الأمثلة التاريخية الناصعة التي يفترض أن تكون نموذجاً يحتذى به للساسة الحاكمين في البلدين، وطالما أن الناس في العراق ولبنان يطالبونهم بالرحيل، نموذج الرئيس شارل ديغول، الذي كان أحد أبطال الحرب العالمية الأولى، وقد ظل صلباً صامداً خلال الحرب العالمية الثانية كلها، رغم انحراف الكثيرين ممن كانوا تحت إمرته ليعملوا مع النازية. لقد ظل الرجل يكافح لتخليص أوروبا من ذيول النازية التي دُحرت، فأسس الجمهورية الخامسة في فرنسا، وكان أحد الذين أسسوا للاتحاد الأوروبي، وأحد المؤثرين في اتفاقية روما الأساسية للاتحاد عام 1957. هذا القائد الفذ دعا الشعب الفرنسي لاستفتاء إصلاحي في 27 أبريل 1969، وفشل في الاستفتاء بفارق نقطة واحدة. عندها حبست فرنسا أنفاسها لترى ما سيكون من ديغول. بعد عشر دقائق أو يزيد من منتصف الليل صدر بيان موجز من سطرين، سمعه الفرنسيون والعالم أجمع بصوته. لم يكن أمراً بإطلاق النار على شعبه، وإنما جاء فيه حرفياً: أعلن توقفي عن ممارسة مهامي رئيساً للجمهورية، ليصبح هذا القرار نافذاً عند ظهر اليوم 29 أبريل 1969. وانسحب ديغول تاركاً وصية من بندين: الأول ألّا يحضر جنازته رؤساء ولا وزراء ولا ساسة، والثاني ألاّ يُحفر على قبره إلاّ اسمه (شارل ديغول 1890 -1970).