دخلت العملية العسكرية التركية شمال شرقي سوريا، المسماة «نبع السلام»، أسبوعها الثاني، رغم الإعلان عن وقف مؤقت لإطلاق النار، ومعها تغيرت خريطة التوازنات العسكرية والسياسية وتشكلت مصالح وتحالفات جديدة. لقد صاغت تركيا في سبعة أيام وقائع ميدانية جديدة، لاختبار مدى صدقية الدول الغربية. وخلال الأيام القادمة ستحدد تركيا خطوتها التالية في تحالفاتها الدولية بين محوري روسيا وأميركا.. فهل يمكن افتراض موافقة ضمنية أميركية على العملية التركية بهدف إنهاء الملف الكردي قبل الوصول إلى حل سياسي للصراع السوري؟ وهل التقت مصلحة النظام السوري مع المصالح التركية حتى ولو كان الثمن احتلال أراض سورية؟ وما هي حسابات الربح والخسارة للدول المعنية بسوريا؟
يمثل الأكراد بين سبعة وعشرة في المئة من تعداد السكان في سوريا، وفي بداية الحرب السورية لم تتأثر المناطق الكردية بالصراع الأهلي، وتجنبت الأحزاب الكردية الانحياز لأي من طرفي الصراع. وفي منتصف 2012، انسحبت القوات السورية من المناطق الكردية لتركز على قتال المعارضة في مناطق أخرى، فبدأت القوات الكردية بفرض سيطرتها على تلك المناطق، وأنشأ الأكراد بقيادة «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» إدارات ذاتية في كل من القامشلي وكوباني وعفرين عام 2014، فيما قبلت الحكومة السورية على مضض الوضع طالما لن يلجأ الأكراد إلى حمل السلاح ضدها. وحينها أكدت الأحزاب الكردية أنها لا تسعى للاستقلال بل إلى «إدارة محلية ديمقراطية»، لكنها أعلنت في مارس 2016 إقامة «نظام فيدرالي» يشمل المناطق العربية والتركمانية المستعادة من «داعش»، وقوبل إعلانها بالرفض من قبل الجميع: الحكومة السورية والمعارضة السورية وتركيا والولايات المتحدة.
وترفض حكومة دمشق المطالب الكردية بالحكم الذاتي، وقد تعهدت باستعادة كل شبر من البلاد بالمفاوضات السياسية أو القوة العسكرية، فيما تقول تركيا إن «وحدات حماية الشعب» و«حزب الاتحاد الديمقراطي» يمثلان امتداداً لـ«حزب العمال الكردستاني»، وإنهما تنظيمان إرهابيان يجب القضاء عليهما.
وقد بدأ الهجوم التركي في التاسع من أكتوبر الجاري بعد سحب الرئيس الأميركي قوات بلاده من المنطقة عقب اتصال هاتفي مع أردوغان، لتبدأ تركيا عملية «نبع السلام»، وهي ثالث عملية عسكرية لها في سوريا خلال السنوات الأخيرة. ففي عام 2016 أطلقت عملية «درع الفرات»، وفي 2018 أطلقت عملية «غصن الزيتون» التي سعت لاحتلال عفرين. ويخطط أردوغان من خلال عملية «نبع السلام» للسيطرة الكاملة على المناطق الحدودية السورية.
ومع تسارع وتيرة الأحداث عادت القوات الحكومية السورية لبسط سيطرتها على المناطق الكردية التي ظلت لسنوات تتمتع بحكم ذاتي، وبذلك انتهى مشروع الحكم الذاتي الكردي في سوريا، حيث دخلت قوات بشار الأسد يوم الـ14 من أكتوبر الجاري إلى مدينة تل تمر، ثم إلى الطبقة فعين عيسى، ومن بعدها إلى منبج. إن تخلي أميركا عن حلفائها الأكراد لم يترك لهم أي خيار في مواجهة القوات التركية والقوات المساندة لها من الجماعات المتشددة، سوى التفاوض مع دمشق. وكان من الواضح أن «وحدات حماية الشعب» الكردية لن تستطيع الصمود أمام القوات التركية وحلفائها.
ويشكل انتزاع مناطق شرق الفرات من عباءة النفوذ الأميركي مصلحة مشتركة لكل من تركيا وسوريا وروسيا. لكن الحكومة السورية لن تقبل بغير العودة إلى ما قبل عام 2011، وحل كل التشكيلات العسكرية والأمنية، وحل الإدارة الذاتية وعودة مؤسسات الدولة للعمل في كافة مناطق شرقي الفرات. فعلاوة على ثروات هذه المناطق، تشير التقديرات في دمشق وعواصم حلفائها إلى أن خطر تشكل دولة كردية يبقى أكبر من خطر احتلال تركي سيغادر مرغماً في نهاية المطاف.. لذلك فالخاسرون مرة أخرى هم الأكراد.